تبدو الدولة الإسبانية الحديثة التي تشكَّلت في العام 1975 على مبدأ الملكية الدستورية بعد سقوط الجنرال فرانكو، إحدى أكثر الدول الأوروبية التي شهدَ تاريخَها الكثيرَ من الحروب الأهلية والصراعات العرقية والمذهبية الدموية، ولكن بعد هذا التاريخ اقتصرت حالة الاضطرابات على حركة الاستقلال الباسكية التي مثلتها حركة إيتا المعارضة التي أعلنت وقفَ جميع نشاطاتها قبل عامين، وحركة الاستقلال الكتالونية التي جهَّزت في العام 2017 استفتاء إعلان استقلال الإقليم أنهتهُ السلطات الإسبانية بالقوة، وصولاً لاعتقال العديد من المنظمين ومحاكمتهم.
هذه الحالة غير المتوازنة تاريخياً على المستوى السياسي انعكسَت على باقي مسارات الحياة بما فيها الرياضة، تحديداً لجهة المواجهات المباشرة «الكلاسيكو» بين القطبين برشلونة وريـال مدريد، لكن كلاسيكو هذا العام كان مختلفاً، فمطالبُ الانفصاليين الكتالونيين بالإفراج عن قادة ومُنظمي الاستفتاء الذين تمت محاكمتهم أدت لتأجيله شهرين بسبب المخاوف الأمنية وتهديدات الجماعات الانفصالية في الإقليم بإفشال المباراة ليُقامَ مساءَ الأمس، حيث تم تحشيد عشرات الآلاف من تشكيلات الشرطة وقوات الأمن المحلية والخاصة مع إجراءات استثنائية لضمان الأمن.
هذا الأمر بدا مفهموهاً إن كان لجهة شعب لديه مطالب أو لجهة دولةٍ تسعى لضمان أمنها، لكن ما هو ليس مفهوماً أن يتبنى المشجع الرياضي لكرة القدم ممن لا يحملونَ الجنسية الإسبانية هذا الانعكاس للصراع السياسي على الرياضة، فما بالك إن كان هذا المشجع هو مواطن عربي!
من حقّ أي شخص أن يشجعَ الفريق الذي يريدهُ، لكن عندما نتبنى في السياسة ما يُفسد الرياضة هنا علينا أن نسألَ السؤال الأهم:
هل نحن فعلياً مؤهلون نفسياً أو فكرياً لإعطاء النصائحَ للآخرين؟ فما ما بالكَ عندما تكون هذه النصائح متعلقة بتعابير تبدو في مجتمعاتنا أشبهَ برجسٍ من عمل الشيطان: حرية تفكير، مساواة، أعمال العقل؟
تخيلوا أن المشجع العربي الذي يتضامَن مع المعتقلين السياسيين الكتالونيين، قد لا يجرؤ أن يفعل الأمر ذاته مع جاره في البناء ذاته الذي قد يكون معتقلاً سياسياً في المركز الأمني في الحي ذاته مخافةَ أن يجاورهُ بذات الزنزانة. تخيلوا أن المشجع العربي يعترف بحق كتالونيا بالانفصال لأن خيرات الإقليم تسرقها الحكومة المركزية في مدريد حسبَ رأيه، وهو لا يستطيع الدفاع حتى عن لقمة عيشه أو رغيفَ خبزه أو أسطوانةَ غازه التي يسرقها منه لصوص الوطنية؟ تخيلوا مثلاً أن المواطن العربي الذي يريدُ الحريةَ لكتالونيا ليسَ قادراً في وطنه باسم الحرية التي يطالب بها للآخرين أن يُجاهرَ بتقديم العقل على النَّقل، تخيلوا أن المشجع العربي الذي يُسمي الكتالونيين بـ«صغارِ المقاطعة» يتجاهل إنه لا يبدو في نظرِ من يصفِّق ويهتِف لهُم في بلدهِ أكثرَ من عالةٍ أو رقماً، لا إنساناً ولا حتى مواطناً، هل لكُم أن تتخيلوا؟!
في الخلاصة: دعونا نستمتع بالرياضة والتزموا بالمثل الشعبي القائل الأقربون أولى بالمعروف، وفّروا نصائحكم الديمقراطية والاستقلالية والإصلاحية للأقربين فهل تجرؤون؟ لا جوابَ لدي لكن ما أنا واثقٌ منه هو ما قالهُ يوماً عالم النفس «ألفريد إدلر» بأن مركبَ النقص قد يشكّل المحرّك الأساسي لردود أفعالنا كبشر فتجعلنا ردودَ الأفعال تلك نجهَد لتعويض هذا النقص، ربما قد ينطبق هذا الكلام على الكثير من الذين يحوّلون كلاسيكو كرة القدم الإسبانية إلى كلاسيكو عُقَد النَّقص العربية.. وما أكثرها؟!