«قيامة» جديدة حملها معرض الفنان نبيل السمان … تتراكم اللوحة بأزمنة متعددة وبؤر لمنظور مختلف.. وهي لعناصر وكائنات عابرة للجاذبية
| سارة سلامة
عبر 51 لوحة قدم الفنان نبيل السمان موضوعاته في غاليري «زوايا» وفق معان عديدة تعيد بناء الإنسان، وتأخذنا إلى عوالم الحضارة السورية لندخل في باحات من اللون والخصوبة ونغوص في العصور القديمة كي نشاهد الحضارة تتحدث أبجديتها ونوطتها الموسيقية وأول حبة قمح خرجت من رحم الأرض، التي تعاقبت عليها الممالك كـ«ماري وأوغاريت وتدمر وأفاميا»، وضمن خطوط متوازنة وراسخة عمل المعرض على أن يكون شاهداً على عصر حافل ممتد إلى جذورنا، هي فرصة جيدة لزيارة التاريخ واكتشاف أبعاده.
واتسمت اللوحات بحالة من الاتزان والسلام والحلم تقودها المرأة إلى عوالم مختلفة ربما أراد القول إنها البداية، وعندها جل الحكاية تقاذفتها سنوات الحرب إلى بحر من الهموم لتقدم أبناءها شهداء ويجف قلبها وتصغر عيونها ولكنها رغم ذلك استمرت في تقديم الحب والدفء.
كما صور الطفولة والبراءة بأشكال ووجوه متعددة تجسد الأمل رغم كل الجراح والآلام. ومهما تعدد في الألوان واختيار الموضوعات إلا أنه يمشي بخطا مترابطة عبر قاسم مشترك وتناسق واحد. هي ملاحم متتابعة ومرتبطة ببعضها لا تخرج عن مسارها بل تكمل بعضها. وأعاد تشكيل التاريخ وصاغ الواقع بأسلوب جذاب وساحر ومتناسق لأن مشروعه الأساسي في الحياة الفن. هو قضية آمن بها فامتلك أدواتها، واختار السمان للمعرض اسم «القيامة» وعمل فيه طوال سنوات الحرب أي منذ العام 2012 إلى 2020، ليجسد واقع الإرادة السورية التي نهضت بعد حرب مضنية، هكذا كانت عبر العصور وإلى الآن ما زالت تقهر أعداءها. وعلى هامش المعرض أقام السمان ندوة حوارية ناقش فيها بحضور عدد من أهل الاختصاص والمهتمين والإعلاميين الأبعاد الكامنة وراء المعرض ومعاني اللوحات، إضافة إلى مناسبة المعرض وقدرته في هذا الوقت العصيب على الوجود والبقاء والاستمرار، وقضية الانتماء التي منعته من الهجرة إنما بقي يرسم أسطورة النصر والفخار.
أزمنة متعددة
واستهل الندوة الفنان نبيل السمان ليتحدث أكثر في العمق قائلاً: «من المؤكد أن التسلسل الزمني لعصور وأحداث التاريخ المكتشف حتى الآن، وبمعطى العقل يمنحنا بعداً متجدداً لفهم هذا الكم من الخبرات المتراكمة للإنسان، بما فيها فهمه لاختراع اسمه «الله». تلفتني أنا السوري المشرقي كل تلك البدايات.. «اختراع الأبجدية وتطورها» الأواني الفخارية وعصر كامل من الفخار من ألواح وبناء واستعمال.. ثقافة المحراث وأول بذرة قمح سكنت رحم الأرض «الأم»، أول مسكن وجد بعد المغاور.
ممالك المدن لمنطقة الهلال الخصيب «ماري، أوغاريت، دوراً أوروبس، أفاميا، تدمر وبابل، بحدائقها المعلقة، وبوابة عشتار بآجرها المزجج، النظام الستيني، والاثنا عشري، حيث تقسيم الزمن المتحرك إلى الأمام عيد رأس السنة السورية «الأكيتو».. قبل أن نؤرخ بالنظام «الغريغوري»، الفلك والزيقورات القريبة من السماء. موسيقا وقيثارة أولى و«أورنينا» مغنية المعبد، فرق تجوب المدن للعزف والغناء، شريعة حمورابي.
وجوه ووجوه، موسيقا، وطقوس خصب عشتارية لدورة الحياة في موت وبعث وتجدد، دوائر لا تنتهي من حركة الزمن الذي يعبر راوياً قصة الإنسان وتطور ذهنيته، وإنجازات قدمها أبناء منطقتنا للإنسانية مع بقية أرواحهم «لرمزية أسطورة خطف أوروبا، من زيوس وعبور البحر للضفة الأخرى، تأكيداً لانتقال تلك الحضارة».
وأضاف السمان: «أجساد من دون ظلال، وكأن المسرح الذي غاب عنه «الرجل» البطل شهيداً، ليترك المكان لنساء ثكالى، مريمات حبيبات وأطفال يتامى في زمن افتراضي موازٍ. تتراكم اللوحة بأزمنة متعددة وبؤر لمنظور مختلف.. تراكم لعناصر وكائنات عابرة للجاذبية، وكأن تلك المعارف لا نهائية للتجاور والتحاور، كيمياء للون، وتضاريس لسطح لا يزال مغرياً. لعينيك نشيد المسافات.. لوجوه عانقت فجراً جديداً وبقيت ترقب الآتي.. للدهشة طعم يشبه الخوف.. الفرح.. مشاعر مختلطة.. تكثيف شديد يشبه قصائد الهايكو اليابانية. في كل بداية لعمل جديد مغامرة غير محسومة، وليس شرطاً أن تصل إلى النهايات السعيدة.. أي شيطان ننتظر؟! إنه الحدس حيث كل ما تراكم من معارف وخبرات.. وجوه.. وصباحات لمدن حنونة. نسير على حافة القلق، ونحن نعتقد أن تلك السفينة حتماً ستصل إلى شاطئ لم نبتكر بعد اسماً له.
البحر هذا الغامض الذي يسكننا بكل كائناته وألوانه بغض النظر عن انتمائنا لمدن بحرية من دون أن ننسى ابتلاعه لأحبة في لحظة يائسة، حلموا بزمن آخر.
من الضرورة أن يؤمن الإنسان بقضية تعادل الوجوه، لست مع العبثية، أو القدرية.
يعنيك كل ما يجري من حولك من دون أن تصبح مرآة.. ولكنك بحاجة لزمن يمر لكي يظهر تأثرك الواعي.. بعيداً عن المباشرة المقيتة.
ولفت السمان إلى أن: «قيمة الوجوه تأتي من «أنا الجماعة» والعمل العام، ولو كان المنتج فردياً خالصاً لمطلق عمل فني. هناك حياة موازية لتفاعلك مع الآخر، وعبوره يشكل بقية إنسانك. عرفت بيتهوفن وسيمفونيته التاسعة صغيراً، وعندما اكتشفت أنه كتب إشاراتها ولم يسمعها، أيقنت أنه كتبها بحدسه وبقية روحه.. كورال بشري يهزنا حاملاً أرواحنا إلى حافة الهلاك.. أو لنصر مفترض.
تستوقفني محطة اسمها (تدمر) واحة وسط الصحراء، وعلى طريق الحرير، عمارة لمعابد ومدافن، كل رجل وامرأة وطفل له روليف نحتي (بورتريه) كأنه الفوتوغراف.. مطبوعة تلك الوجوه بالحياة.. بعيون واسعة. نساء بكامل زينتهن ينتظرن الزمن المتجدد، شهود على زمن سعيد.. قبل أن تأتي آلة القتل الرومانية لتدمر المملكة السعيدة. حروب لم تتوقف لقتل الحق، الخير والجمال في بلادي.. غير أن هناك مدناً بقيت صامدة، على امتداد الوطن. عولمة الرعب ومحو الهويات، لنصبح قطعاناً تحمل أرقاماً.. نفقد أرواحنا.. بكم الميديا البصرية، حيث احتمال المشاهد المرعبة، وعيون لأطفال اتسعت في هول ما يحصل. أطفال ويتمٌ وألعاب ملونة، وزوارق ورقية بيضاء، وبقية أمل.. نتجدد بعد موت مؤقت، لنحيا عدة حيوات ونسجل انطباعاً.. ونرحل. إن مشروع الفن هو مشروع حياة.. كي تبقي كل الزمن الذي مر طازجاً يشبهك، ويشبه أناساً سبقوك، وأناساً لا تزال تعيش معهم، ولكن بفكر نهضوي تنويري، يخرج الإنسان من التخلف والتعصب، ويفتح آفاقاً جديدة لحداثة ما.
إن مشروع الفن إنجاز، يعيد تشكيل كيمياء الأشياء.. لوناً وتضاريس، عابراً خط القلق في مغامرة تعادل الوجود. مشهدية لطقس خاص حيث العتم يلد النور».
وختم السمان بالقول: «إنها اللوحة.. شاهد عصر، ونشوة انتصار يستبدل زمن الهزيمة. إنها اللوحة.. زمن موازٍ، يشبه المشتهى. إنها اللوحة.. خلاص لمن يلج عوالمها ويتلمس إيقاعها. إنها اللوحة كائن نزعم اكتمال هيئته، على حين الغد يحمل قلق الوصول. إنها اللوحة إمتاع للبصر والروح، وطريقة لفهم الحياة، وجعلها محتملة. إنها اللوحة.. فسحة للعقل، وشكل للتواصل مع الآخر».