تل موزان في الشمال السوري ممر القوافل التجارية … مدينة أوركيش عبق تاريخي عمره خمسة آلاف عام
| المهندس علي المبيض
لا نستطيع الحديث عن أي حضارة في العالم القديم من دون الإشارة إلى حضارات بلاد الشام وهي الحضارات التي قامت في المنطقة الممتدة من ساحل البحر الأبيض المتوسط غرباً حتى منطقة الجزيرة السورية شرقاً كالآراميين، الفينيقيين، الكنعانيين، أوغاريت، إيبلا، ماري… وغيرها إضافة إلى جميع الحضارات التي تقاطعت وازدهرت قديماً في سورية حيث تؤكد الأبحاث والدراسات الأثرية والعلمية أن بلاد الرافدين وبلاد الشام كانت الموطن الأول للتطور العبقري الذي أنجزته الحضارات السورية القديمة، ومن أهمها الأبجدية واختراع المحراث وأقنية الري، وغيرها الكثير والتي تؤكد أن سورية تعتبر واحدة من الخصائص الأساسية في حضارة العالم القديم.
في الطرف الشمالي الشرقي من سورية وضمن مثلث حوض الخابور العلوي يقع تل موزان شمال مدينة الحسكة بنحو 100 كم وعلى بعد 5 كم من مدينة عامودا ويبعد مسافة 20 كم غرب مدينة القامشلي، وتل موزان هو الاسم الحالي لمدينة أوركيش التاريخية التي ذاع صيتها في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، عرفت أوركيش (تل موزان) أول مرة كمدينة رئيسية على يد الهوريين وكانت مركزاً لمملكتهم أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، كما كانت في الوقت ذاته مدينة دينية وسياسية ومركزاً اقتصادياً مهماً، يبلغ طول تل موزان 700 م وعرضه نحو 400 م وارتفاعه عن الأراضي المحيطة حوالي30م وتبلغ مساحة التل المركزي الداخلي حوالي300000 م2 ويرى بعض الباحثين أن معنى اسم أوركيش مستمدّ من كلمة أوركا الهورية وتعني السرج.
يتألف تل موزان من سبعة تلال متلاصقة يحيط بها سور ظاهر للعيان وتأتي أهمية التل لكونه يقع على سهل منبسط خصيب مروي بشكل جيد يمتد إلى وادي دارا على ضفاف نهر الخابور كما يتميّز بموقعه الإستراتيجي، إذ إن تموضعه في الحافة الشمالية لسهول الخابور بالقرب من ممرّ ماردين جعله يتحكّم بالطريق الذي يقود إلى مناجم النحاس عند مدينة ديار بكر شرق الأناضول إضافة إلى أنه كان ممراً للقوافل التجاريّة من إيبلا وميزوبوتاميا إلى مدينة خاتي عبر سلسلة من الممرات الجبليّة في جبال طوروس، (ميزوبوتاميا هو الاسم القديم الذي أطلق على كامل المنطقة التي تقع بين نهري دجلة والفرات وضمن هذه الأراضي قامت إمبراطوريتان مهمتان آشور في الشمال وبابل في الجنوب وكانتا دائمتي التنافس إلى أن استطاعت بابل في النهاية أن تسيطر على بلاد ما بين النهرين).
يعتقد بعض الباحثين أن معالم أوركيش وعمارتها والكثافة السكانية فيها خلال منتصف الألف الثالث قبل الميلاد تدل على أن الهوريين كانوا موجودين قبل ذلك بألف سنة على الأقل، وهذا ما يتوافق مع الاكتشافات التي رجّحت ظهور أوركيش كمدينة في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، ويدلّ أيضاً على أن الهوريين سبقوا الكثيرين ممن استوطنوا أو ظهروا على مسرح أحداث الشرق القديم ولاسيما في الهلال الخصيب.
توسّعت مدينة أوركيش خلال الفترة الواقعة بين 2600-2400 قبل الميلاد حيث وصلت مساحتها إلى حدود 1500000 م2 وهو أقصى اتساعٍ لها وبلغ عدد سكانها نحو 25 ألف نسمة تقريباً وتشكلت حينها المدينة المنخفضة وبوابة المدينة، وفي الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد أصبح توبكيش حاكماً للمدينة في الوقت الذي كانت مملكة أكاد قد سيطرت على أجزاء واسعة من ميزوبوتاميا، وفي ظلّ التوسّع الأكادي استطاع توبكيش وحلفاؤه من بعده الحفاظ على وحدة المدينة واستقلاليتها، وخلال تلك الفترة عقدت أكاد حلفاً مع أوركيش وتوّج هذا الحلف بزواج أحد ملوك أوركيش من ابنة الملك الأكادي نارام سين واسمها تارام أكاد، وهذا التحالف الثنائي إنما يشير بالدرجة الأولى إلى تماسك أوركيش واستقلالية قرارها ولاسيما أن ملك أكاد نارام سين هو الذي أراد التحالف مع الأوركيشيين وسعى له من خلال تزويج ابنته لأحد حكام أوركيش.
اهتم الملك توبكيش بالطراز المعماري بمدينة أوركيش حيث بنى قصراً ملكياً في عام 2250 قبل الميلاد من الِلبن والطين على أساسات حجرية ويعتبر أحد أكبر القصور في سورية الرافدية وأجودها وقد زوّد القصر بأقنية للصرف الصحي، ويتكون القصر من جناحين رئيسين رسمي وخدمي وساحة خارجية تحيط بالجناح الرّسمي تقدّر مساحة الجناح الخدمي بـ1000م2 وهو منخفض ويتألف من مطبخ ويتبع له مستودع لتخزين المواد التموينية والبضائع الخاصة بالعائلة المالكة وقسم تخديمي يلبّي احتياجات البيت الملكي، أما الجناح الرسمي فتقدّر مساحته بـ2500م2 وهو يرتفع عن الجناح الخدمي بمقدار 2.5م وهذا الجناح يسكنه الملك وعائلته ومنه تدار أمور الحكم، ربط توبكيش القصر مع بناءين مقدسين سبقا زمنياً بناء القصر بالفترة وهما الآبي والمعبد (والآبي هو الحفرة التي كانت تؤدى فيها الطقوس الدينية)، أحيط المعبد بساحة عامة غير مبلطة يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين 2600-1400 قبل الميلاد كانت تربط المعبد مع القصر والآبي على شكل كتلة مترابطة بطول 250م، وإلى الجنوب من المعبد كانت هناك ساحة أخرى بأبعاد100×50 م تفصله عن الحيّ السكنيّ الذي يتكون من مجموعة مساكن تميّزت بأنها كانت مزوّدة بشبكة مجارٍ للصرف الصحي، وهذا مؤشر مهم ويعطي فكرة على الحالة الحضارية والعلمية المتقدمة التي بلغتها سورية في تلك المرحلة.
تم العثور في القصر والحي السكني والأنقاض المحروقة خارج سور المدينة على أكثر من 150 ختماً، هذه الأختام منها ما يعود للأسرة المالكة كالملك توبكيش ومنها ما يعود لبعض الشخصيات المرموقة، وقد استطاعت هذه الأختام أن تقدم معلومات مهمة عن تاريخ أوركيش ونوع العلاقات الاجتماعية، وأوضحت دور المرأة وسلطت الضوء على المستوى الاقتصادي الذي كان سائداً فيها، فعلى سبيل المثال أحد هذه الأختام يعود لتاجر استيراد وتصدير وهو يؤكد على ازدهار اقتصادي وارتباط مدينة أوركيش أيضاً بعلاقات تجارية مع مناطق بعيدة خلال الألف الثالث قبل الميلاد، كما كشفت الأختام عن أهمية دور المعبد والقصر لدى أبناء أوركيش كما أوضحت تلك الأختام مستوى اللغة أيضاً، ولم يعثر في أي مكان في ميزوبوتاميا وفي أي فترة تاريخية قديمة على أختام تحمل خصوصية محدّدة وتفاصيل تعبّر عن ثقافة مختلفة كالتي وجدت في أوركيش، كما بينت تلك الأختام أن الملكة أقنيتوم كانت تشرف على المستودعات المخصّصة للبضائع وتشارك زوجها الملك توبكيش في أمور الحكم، حيث ظهرت الملكة في عدة أختام وهي تلبس ثياباً راقيةً وتجلس بمحاذاة زوجها وكأنّها تقول إنها لا تقلّ مرتبة عنه وكانت تطلق على نفسها لقب ملكة أوركيش، كما عثر بداخل القصر أيضاً على وثائق كتابية تعود للفترة الواقعة بين 2250 -2000 قبل الميلاد تعالج مواضيع إدارية، ووجدت نصوص مدرسية بالرموز المسمارية وباللغتين الهورية والأكادية بغرض تعليم الكتابة وهي تدل على مدى التطور الذي وصلت إليه المدينة.
وقد عثر أيضاً على مجموعة كبيرة من التماثيل لحيوانات برية مصنوعة من الطين بأشكال صغيرة وهي توثق بواقعية مباشرة وملموسة طبيعة الحياة الحيوانية قديماً في المنطقة وتعطي فكرة عن نوعية الحيوانات التي كانت تعيش في سورية، ومن اللافت للنظر قلة التماثيل البشرية مقارنةً بالتماثيل الحيوانية والتي كانت منتشرة بكثرة في أوركيش.
كما تم العثور على العديد من التماثيل والمنحوتات التي صنعت من مواد متنوعة ومختلفة كالمعدن والحجر والطين منها تمثال الأسدين اللذين تم تنفيذهما بشكل يشابه شكلهما الحقيقي، حيث استطاع الفنان إظهار هيبة وقوة الأسدين بواقعية وحيوية قلّما تجدها في مكان آخر في تلك الفترة، وتمثال آخر من الحجر يمثّل القوة والحكمة بآن واحد وهو عبارة عن منحوتة على شكل جسد أسد ورأس إنسان، وعثر أيضاً على تماثيل أخرى مصنوعة من الطين كمنحوتة المرأة العارية التي ربما كانت تستخدم في مناسبات وطقوس معينة، إضافة إلى تماثيل ومنحوتات مصنوعة من الحجر تمثل مشهداً لرجل يقوم بأعمال الحراثة على أحد الوجوه ومشهداً لحيوانات ترعى على الوجه الآخر.
في بداية الألف الثاني قبل الميلاد ضعف الدور الاقتصادي المركزي لأوركيش وتقلّص حجم المدينة ليصل إلى حجم التل الحالي، ومع ذلك فقد حافظت على مركزها كقوة رئيسية مستقلة واستطاعت أن تحمي نفسها وبقيت من المراكز الدينية المهمة في شمال بلاد الرافدين كما تشير نصوص مملكة ماري.
وخلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد ظهرت مملكة ماري كقوة رئيسية وامتد نفوذها بشكل واسع وبسطت سيطرتها على مناطق واسعة من بلاد الشام، ونتيجة لهذا الوضع أعلن ملوك أوركيش تبعيتها لحاكم ماري «زمري ليم» إلا أن بعض الرسائل التي تم العثور عليها في مملكة ماري بيّنت أن أبناء أوركيش كانوا مستائين من هذه التبعية ورافضين لها، حيث تضمنت إحدى رسائل ماري خطاباً من حاكمهم يخاطب فيها حاكم أوركيش بالقول «لا أعلم لماذا أبناؤك (شعبك) في مدينتك يكرهونك بسبب تبعيتك لي لكن أنت لي على الرغم من أن سكان أوركيش ليسوا كذلك».
مستشار وزير السياحة