بث الإعلام الإماراتي والمصري والسعودي خلال الأسبوعين الماضيين الكثير من التقارير التي تسخر من تداعي ما تبقى من مشروع الرئيس التركي رجب أردوغان في سورية وذلك مع تقدم الجيش العربي السوري، «الذي لا تزال القنوات الإماراتية والسعودية تصفه بجيش النظام أو قوات الأسد»، وإطباقه على آخر معقل للجماعات الإرهابية المدعومة من أنقرة في إدلب، وعجز أردوغان عن مساعدة تلك الجماعات إلا بإطلاق التهديدات الخاوية، كما سخرت بعض تلك التقارير من تعرض نقاط المراقبة التركية للحصار واضطرار الجيش التركي للانسحاب من سراقب بعد ضربة صاروخية سورية تلقتها قواته التي فشلت في منع الجيش العربي السوري من الاستيلاء على البلدة الإستراتيجية.
بل إن كثيراً من التعليقات على صفحات ما يسمى بالمعارضة السورية على مواقع التواصل الاجتماعي تسخر اليوم من أردوغان وتهديداته، فالمعارض السوري المرتبط بالسفارات الغربية هو أكثر من خَبر تهديدات الرجل منذ بدأت الحرب على سورية وقبل وبعد وصول الدعم الروسي، عندما كان يصرح أن «المدينة الفلانية خط أحمر» فيدخلها الجيش العربي السوري بعد يومين وأردوغان يتفرج، كما يتذكر هؤلاء جيداً عندما أسقطت الدفاعات السورية طائرة مقاتلة تركية عام 2012 وقتل طيارها، وادعى أردوغان يومها أن المقاتلة لم تخرق الأجواء السورية وهدد بالحرب ثم ابتلع تهديده، لكن هل فعلاً يمكن اعتبار أردوغان مجرد ظاهرة صوتية كما يصفه اليوم إعلام المحور «السعودي الإماراتي المصري» وكما يصفه كثير من المعارضين السوريين الخائبي الأمل؟
في الواقع يمثل نظام حزب العدالة والتنمية الحاكم لتركيا منذ عقدين، أكثر بكثير من مجرد صوت إعلامي، فهذا النظام أدى دور القاطرة لمشروع أميركي خطير لحكم العالم العربي عبر تسليمه بالوكالة للتنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين، وحسب ما يتوافر من معلومات فإن أسس هذا المشروع وضعت منذ تأكدت الولايات المتحدة من استحالة السيطرة على المنطقة مباشرة، عبر الغزو العسكري وبالاعتماد على التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وذلك بعد الاستنزاف القاسي الذي واجهه الجيش الأميركي من المقاومة المدعومة من سورية وإيران في كل من الساحتين العراقية والأفغانية، الرئيس الأميركي دونالد ترامب علق على اغتيال الفريق قاسم سليماني فقال للأميركيين: عندما ترون جنوداً مبتوري الأرجل في شوارع أميركا تذكروا أن ذلك الرجل كان وراء بتر أعضائهم»، كما خسر الاقتصاد الأميركي نحو 7 تريليونات دولار خلال الحربين ليصبح حرفياً على حافة الإفلاس، وذلك من دون التمكن من إحكام السيطرة على العراق وأفغانستان، فما بالك بالتوسع نحو سورية وإيران كما كانت خطة «حجارة الدومينو» للباحث الإستراتيجي الأميركي برنارد لويس.
في ذروة تلك الظروف عام 2005 ومع غوص الولايات المتحدة في مستنقعي أفغانستان والعراق قام الباحث الأميركي الشهير ذو الارتباطات الأمنية صموئيل هنتغتون صاحب الكتاب المعروف «صراع الحضارات» بزيارة إسطنبول، وحاضر في الأتراك وفي أعضاء حزب العدالة والتنمية الإخواني قائلاً: «مكان تركيا ليس في مؤخرة الاتحاد الأوروبي بل في قيادة العالم الإسلامي»، هنا فقط تغير كل برنامج حزب العدالة والتنمية من السعي المحموم للانضمام للاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بقضايا الشرق الأوسط، «لنتذكر أن حزب العدالة والتنمية وفي سعيه السابق لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ألغى العديد من القوانين التي لا يُتوقع من حزبٍ ذي توجه إسلامي إلغاؤها مثل: قوانين تجريم الخيانة الزوجية والشذوذ الجنسي وإلغاء عقوبة الإعدام».
كما بدأ منذ ذلك الحين مئات المليارات من الاستثمارات والقروض الأوروبية تتدفق نحو تركيا لتجعل منها النموذج الإسلامي المعتدل بالمقاييس الغربية، والذي ينال في الوقت نفسه إعجاب المسلمين ويتفوق في جاذبيته على محور المقاومة، إنه النظام الذي يحقق النجاحات الاقتصادية ويتخذ من الإسلام هوية له لكن رئيسه لا يمانع زيارة إسرائيل ومصافحة شارون وتلقي وسام الشجاعة منه، بل وزيارة قبر مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل ووضع الزهور عليه.
في الواقع لم تكن سورية ولا إيران غافلتين عن التحضير الأميركي لاستخدام تركيا في مواجهة محور المقاومة، وهذا ما يفسر ما قدمته الدولتان لتركيا من المزايا الاقتصادية والإستراتيجية في محاولة لإقناع القيادة ومؤسسات الدولة التركية بفوائد ومزايا التشبيك والتكامل مع دول المنطقة بدل لعب دور الوكيل الأميركي الذي يحاول حكم المنطقة لمصلحة واشنطن وبما يحفظ أمن إسرائيل، وكمثال على ما قدم لتركيا فإن مجمل الصادرات التركية لدول الخليج والتي كانت تعبر الأراضي السورية بإعفاءات جمركية وصلت نحو 20 مليار دولار سنوياً قبل الحرب السورية، إضافة إلى اتفاقيات تصدير الغاز التي وقعت مع إيران.
لكن عندما حانت لحظة الاختيار في بدايات ما أسماه الإعلام الغربي بالربيع العربي، فضل أردوغان الانخراط في المشروع الأميركي للمنطقة على مشروع التكامل والتشبيك مع دول المنطقة، وفعلاً بدأت العواصم العربية بالتساقط تباعاً تحت حكم الإخوان الذين بايعوا السلطان في إسطنبول: «مصر وتونس وليبيا واليمن» كلها حكمتها حكومات إخوانية، بل إن الولايات المتحدة وخلال أول سنتين من الربيع أجبرت السعودية نفسها ورغماً عنها على الانخراط في المشروع تحت قيادة تركيا وممولتها قطر، وهذا ما كان واضحاً في شهادة وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، الذي تحدث في مقابلة تلفزيونية لاحقاً، عن زيارته للملك السعودي عبد اللـه في بداية الربيع، والتي وضعت السعودية في مكانة مذلة للغاية، من خلال إجبارها على تمويل مشروع منافستيها الإقليميتين، تركيا وقطر، في سورية من دون أن يكون لها أي دور في القيادة في ذلك الحين.
لكن مصيبة أردوغان التي تجلت بعد ذلك وخلال السنوات اللاحقة في أنه قبض من أميركا لكنه لم يستطع أن يسلمها ما تم الاتفاق عليه وهو رأس محور المقاومة ممثلاً بسورية الدولة التي تقع على حدوده والتي كان من المفترض أن تكون مفتاح استعادة السلطنة العثمانية، لكنها استعصت على الإخوان، في الواقع لم يكن الجيش التركي النظامي غير المستعد طبعاً لدفع أي دماء في معارك خارج حدوده، لم يكن هو أداة أردوغان التي راهن عليها لتحقيق مشروعه الإمبراطوري، بل كان جيش أردوغان الحقيقي هو جموع الإرهابيين الذين استقدمتهم الاستخبارات الغربية والتركية من الصين وآسيا الوسطى ومن كل العالم والذين قاتلوا الجيش العربي السوري مع إرهابيي الداخل السوريين بتغطية جوية إسرائيلية وبتمويل وتسليح أغنى الدول من السعودية وقطر وأميركا وبريطانيا وفرنسا، لكنهم رغم كل ذلك الدعم فشلوا في إنجاز المهمة، ما أجبر الولايات المتحدة على سحب قيادة مشروع إسقاط سورية من يد تركيا وقطر وتسليمه للسعودية بعد سنتين من الربيع، عندها تنامت النصرة وظهرت داعش واختفى الجيش الحر الإخواني، وعندها أمكن للجيش المصري إسقاط حكم الإخوان في مصر «بعد معركة القصير في سورية عام 2013 والتي شكلت نصراً محورياً للجيش العربي السوري وفشلاً للإخوان» فتداعى نتيجة ذلك المشروع الإخواني في بقية الأقطار العربية وسقطت الحكومات الإخوانية تباعاً.
سيحاول أردوغان جهده التمسك بما بقي له في سورية لكن تجربة سراقب أثبتت أن المشروع سقط استراتيجياً وأن لا آفاق لوجود عسكري تركي في سورية، فمن تراجع مرة سيتراجع مرات، يبقى على الأنظمة والشعوب العربية أن تدرك اليوم أن تضحيات وصبر الشعب السوري ودماء عشرات الآلاف من الجنود السوريين ومن مقاتلي المقاومة اللبنانية كانت الثمن الذي تم دفعه لإسقاط مشروع إعادة تدجين المنطقة وحكمها عبر الوكيل التركي تحت يافطة استعادة الخلافة العثمانية، وبوساطة فروع تنظيم الإخوان المسلمين العالمي، ذلك المشروع الذي عندما كان يحظى بالدعم الأميركي في بدايات الربيع لم تمتلك السعودية ولا الإمارات ولا حتى ما يسمى بالدولة العميقة في مصر جرأة التصدي له وإسقاطه، لكن القيادة السورية أسقطته.