وأذّن مؤذنٌ بيننا.. حيّ على النصر.. هاقد انتصرت حلب، فلاقتها النواقيس مزغردة، وهلّلت في ترنيماتها مبتهلة:
اليوم سطعت شمس الحقّ لتسحق كلّ المصائب والنّوب، بقينا على حجارتها ما بقي التين والزيتون، وتلاشيتم بإجرامكم تلاشي غاسقٍ قد وقب.
لله درها فقد أبهرتنا بصبرها تلك الجميلة حتى غارت من جمالها ترانيم الطرب، رغم العير الذين تربصوا بها، فقد بقيت في الطهارة جوهر الوضوء، وفي الدعاء تسبيحات ملائكةٍ تتنزل برحمةٍ على أفئدة من دافع عنها، كما تساقطت يوماً على مريم الرطبْ. هذا حال العاشقين لمدينةٍ شابت على عتباتها نواصي الدهر وهي لم تشب، هذا حال من يحلّق بنكهة زعترها وريح غارها، هذا حال من لا يراها سطراً من سطور التاريخ، لكن التاريخ على حجارتها قد انسكب.
كلما رفرفت ذكرياتي فوق قلعتها، ورحل بي الشوق حيث حيّنا وملاعب طفولتنا، أستلّ قلمي عساني أنسج بعض الكلمات عنها، فيحضرني قول شاعرها، أبي فراس الحمداني:
«أسير عنها وقلبي في المقام بها كأنّ مهري لثقل السير محتبس». لكن ليست كل الأمهار هي كما مهر أبي فراس عند مغادرته لها، هناك أمهارٌ حملت شجعان هذا العصر ليفيئوا مدافعين عن أسوارها، حتى باتوا كمن يسير إليها وفي قلبهم مقامٌ لها، أما أمهارهم فهي لفرط المروءة والرجولة لدى من يمتطيها، باتت كمن يسابق الزمن ليكتب التاريخ من جديد.
ببساطةٍ هم أيقنوا بأن النصر قرار وليس خياراً، لكن النصر لا تصنعه الشعارات ولا الخطابات، النصر يحتاج أولاً لمن آمن بأن سورية أكبر من مجرد وطن، وهل هناك أسمى من الذي كان يتقاسم مع جاره وقت الحصار حتى رغيف الخبز؟! هل هناك أسمى من أم علمت أن ابنها استشهد على جبهات القتال، لكنها لا تمتلك حتى القدرة على نعيه والفخر بشهادته لأنها محاطةٌ بذئاب الإرهاب؟! هل هناك أسمى من شهيدٍ يرتقي فيشيّع من الجامع على وقع أجراس الكنائس؟!
النصر يحتاج ثانياً لزنود الرجال، شجعان هذا العصر، وهل من عاقلٍ سيفكر بأن يخوض معركة وصفهم والتغني بانتصاراتهم في بضعة أسطرٍ، ربما يمكننا اختصار صدقهم بعبارةٍ واحدة: وعدوا.. وأوفوا.
اليوم لا مكان فعلياً للشعارات ولا للوعود، نحن أمام حقيقةٍ انتظرناها طويلاً وهي أبعد من مجرد تحريرٍ لمدينة، وأعمق من مجرد فرضية سقوطٍ جديد للمؤامرة على سورية، نحن نتحدث عن رئةٍ تنفس عبرها الوطن لأعوامٍ حتى مع بدء الحرب على سورية، نتحدث عن صمام أمانٍ قادر ببساطة أن يبدل ويغير الكثير في الاقتصاد السوري مجتمعاً، نتحدث عن شريان حياة بات يصل حتى عبر سكة القطار الشمال بالجنوب بالمرافئ البحرية، ليعلن بداية ما قد نسميه دورة الحياة الاقتصادية.
أما حلب كمدينةٍ لا تنام فإنها كانت ولا تزال تحتفظ بلقب «أم الفقير»، فدعوها لمحبيها ومن آمنوا بصمودها ليعيدوا ترتيبها، فالمدينة لا تحتاج لأكثر من مسح غبار التعب عنها واحتواء عشوائياتها التي شكلت ملاذاً للمتطرفين، لا تحتاج لأكثر من أن نحبها ونفتح عيوننا على المتربصين بها، لا تحتاج لأكثر من النظر بأهميتها كي لا نعيد تجارب الاتفاقيات الاقتصادية مع من كان ينظر إليها كمنافسٍ عليه التخلص منه.
في الخلاصة: قد تختصر عبارة.. «وانتصرت حلب» كل ما قد يأتي بعدها، لكنها حكماً لكي تختصر كل ذلك علينا أن نمتلك الإرادة للعمل والتغيير، مباركٌ هذا الانتصار الذي تعمد بدماء من نحب، لكن كما يقال دائماً:
«سورية مهرها غالٍ».