كنت وسأبقى من المدافعين عن ضرورة التّمسك بالحياد الحزبي أو الأيديولوجي لكلّ كاتب يبحث عن المصداقية في تعاطيه مع الشأن العام، لكن في الوقت ذاته لا بدّ من التمييز بين الحياد الحزبي والحياد الوطني، فإن كنت أرى بنفسي عروبياً بالفطرة فلا يعنيني أن أكون عروبياً في الأيديولوجيات، لكن بما يتعلق بالوطن فالأمر مختلف فلا حياد مع الوطن، والذي يرى نفسه محايدا تجاه الحرب على وطنه عليه ببساطة أن يبحث عن كرامته أين باعها.
الأيديولوجيات الحزبية لا تولد معنا، وعدم الاقتناع بها لا يلغي إلزامية احترامها أو تقبلها، على هذا الأساس لا يحق لك كمؤدلج أن تستصغر أيديولوجية حزبية أو حدثاً داخلياً في حزب آخر وتنتقص من قيمته، لأنها تبدو انتقادات بمرجعية تنافسية لا أكثر. بذات الوقت وجب على من لا يحملون أيديولوجيات حزبية عدم التدخل بالشؤون الداخلية لأي حزب من الأحزاب ما لم يتقاطع هذا الأمر مع الشأن العام للدولة، وعلى الذين يقدمون أنفسهم كمحايدين إن مارسوا نقد السلبيات أن يشيروا للإيجابيات فتجاهل الإيجابيات يقتل المصداقية، وبتبسيط واقعي أكثر فإنك تتحول إلى شخص لا تريد أن ترى الإيجابيات لأنها تشكل انهيارا لشعبية تبنيها على حساب سلبيات الآخرين وهذه ليست شطارة هذه بأدنى درجاتها خسّة.
قبل أمس، أعلن مصدرٌ في حزب البعث عن إلغاء تشكيلات الفروع والشعب الحزبية التي صدرت في شباط الماضي، حدثٌ وإن كان سابقة في تاريخ الحزب الذي يحكم سورية منذ أكثر من خمسين عاما، إلا أن مدلولاته الكبيرة يجب عدم المرور عليها مرور الكرام، حدثٌ لربما انتظره السوريون كثيرا لأن الجميع في سورية يدرك أن معالجة الخلل تبدأ من هنا، من اللحظة الأولى لدخول البعثيين رسميا المعترك العام، فإما أن يكون هذا الدخول مبنيا على الكفاءة والأحقية أو مبنياً على مقولة «من يبدأ حياته بالاستدانة ينهيها بالتسول».
لا يعنينا الدخول في تفاصيل القرار، تحديدا أن المصدر الحزبي تحدّث صراحة عن «اعتراضات كثيرة وصلت»، فكلمة «اعتراضات» تعني ضمنيا بأن هناك تجاوزات أما كلمة «وصلت» فهي واضحة هذه المرة لمن وصلت، لأن اعتراضات كثيرة ربما كانت تطرح في السابق دون أن يكون لها آذان مصغية بل على العكس هناك من كان يرمي مطلقيها بسيف «العمالة»، ربما؟ ما يعني أن نقيّم بتثمين عال هذه الخطوة، والتي نتمنى فعلياً ألا تكون خطوة عابرة تحديداً أننا مقبلون بعد أسابيع على انتخابات مجلس الشعب وما قد يليها من تشكيل حكومة جديدة وتغييرات في العديد من مفاصل الدولة.
في الخلاصة: لكي نفهم أهمية ما حصل دعونا نراقب ردّات فعل المواطنين عند سماعهم الخبر، لنتأكد بأن هذا الشعب متعطش لأن يرى لمسات إصلاحية فاعلة على أرض الواقع وضربات قاضية لمواضع الترهل والفساد، تحديدا أن هؤلاء لا يثقون إلا بربان واحد، ربما مشكلة كبيرة عندما يكون هذا الربان مضطر حتى لمتابعة أدقّ التفاصيل التي من المفترض أن لها من يتابعها، لكنها ببساطة ثقة الناس التي ترى فيه ملاكما لا يدير ظهره لمطالب الشعب إلا عندما يقرر توجيه لكمة لمن ما زالوا غير مقتنعين بأن قطار الإصلاح سيتجاوز عقولهم الخشبية، ما يعني أن اللكمة الأولى تمّت بانتظار اللكمات الباقية، فهل تكون الحلبة هي لوائح المرشحين لانتخابات مجلس الشعب؟ لا يهم، ما يهمنا الآن إننا كسوريين أيا كانت توجهاتنا السياسية علينا أن نصفق لكل خطوة إصلاحية أو تحرك إيجابي نحو بناء الوطن الذي نطمح إليه بعيدا عن تقزيم جهود الآخرين، بل ونقول ببساطة:
شكراً لتلك القبضة التي لكمت، هي فعلياً «ضربة معلم».. بعثية.