في غضون عام واحد تلقت ميكانيزما الحركة الإيرانية ضربتين موجعتين، وإن كانت كل منهما تفضي إلى عطب مختلف في أجزاء نقل الحركة داخل العربة، ففي مطلع هذا العام جرى اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في مطار بغداد، وعلى مشارف نهايته جرى اغتيال محسن فخري زادة رئيس منظمة الأبحاث في وزارة الدفاع الإيرانية على مقربة من العاصمة طهران، حيث للجغرافيا التي وقع فيها هذا الفعل الأخير أثر مضاعف للفعل الأول، وهو جاء كاشفاً لاختراق أمني كبير استطاعت من خلاله مجموعة، لا شك في وجود امتدادات داخلية لها كافية لقرع أكثر من جرس إنذار، من أن تنفذ عمليتها على أربع دراجات نارية كانت قد استخدمتها للقيام بتلك العملية.
قد لا يكون مهماً هنا بالدرجة الأولى البحث عن القائم بالفعل أو من يقف وراءه، فهو بالنتيجة شبه مؤكد بأدلة شبه دامغة، خصوصاً بعدما أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغريدة لصحفي إسرائيلي كان مفادها أن اغتيال فخري زادة كان يمثل على الدوام هدفاً قائماً على رأس أولويات «الموساد»، ثم يجب ألا يغيب عن الذاكرة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان قد أشار في خطاب متلفز له في نيسان 2018 إلى قلق بلاده من مواصلة إيران العمل على مشروع «آماد» الذي قال إنه يهدف لإنتاج قنبلة نووية، قبل أن يضيف: إن فخري زادة هو من يدير ذلك المشروع، لينهي كلامه بإشارة لافتة « تذكروا هذا الاسم.. فخري زادة».
جاء اغتيال فخري زادة في لحظة تلاق إسرائيلية أميركية كانت حاسمة، فمصلحة تل أبيب كانت، وستظل، تكمن في إجهاض محاولات النهوض الإيراني بشتى السبل والوسائل، في حين كانت واشنطن ترامب تسعى من خلال الفعل إلى وضع العصي في دواليب إدارة جو بايدن المقبلة، التي تشير توجهاتها إلى إمكان ذهابها إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني أو آخر معدل له بموافقة الطرفين بحيث يمكن لهذا الأخير أن يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحاصلة ما بين 2015 العام الذي جرى فيه توقيع اتفاق فيينا، وبين اللحظة المفترضة لتوقيع اتفاق جديد، إلا أن تلك التلاقيات، على أهميتها، ما كان لها أن تحقق ذلك النجاح الذي تكلل يوم الجمعة الماضي لولا وجود اختراق أمني كبير، وهو يشير إلى نجاح واضح في التغلغل داخل أوساط شديدة الحساسية، ولربما مرده يعود إلى التهتك الحاصل في النسيج الاقتصادي الداخلي الذي استطاع كما يبدو جذب جماعات لتنفيذ إملاءات خارجية أياً يكن نوعها وحجمها، وكذا للفوضى المنتشرة في المحيط الإيراني والتي ستصيب شظاياها ولا شك دواخل هذا الأخير.
الآن، لربما يكمن الخطر الأكبر في التداعيات التي يمكن أن تؤدي إليها عملية الاغتيال، في أن يكون هناك «إيرانان» في طبيعة الرد المحتمل على ذلك الفعل مما يمكن استشرافه من التصريحات التي أعقبت تلك العملية، ففي الوقت الذي ذهبت فيه مؤسسات السياسة ممثلة برأس هرمها الرئيس حسن روحاني إلى إظهار مدى إدراكها للحظة السياسية الحرجة التي تمر فيها الولايات المتحدة، والتي تبدي فيها هذي الأخيرة حالة من الاستعداد هي في حدودها القصوى للقيام برد فعل عسكري واسع على أي فعل انتقامي يمكن أن تذهب إليه طهران، كان الحرس الثوري الإيراني، الذي ينتمي فخري زادة إلى صفوفه منذ عام 1979، يظهر حالاً من التشنج، وإن كانت مبررة من الناحية الأمنية ثم من ناحية المساس بالقدرات الراسمة للدور، فإنها لا تبدو كذلك من الناحية السياسية التي إن انتصر التشنج فيها على الإدراك سابق الذكر الذي أبدته مراكز صنع القرار السياسي، فمن المؤكد أن تذهب التطورات إلى مطارح ليست محمودة العواقب خصوصاً في ظل تنامي الدور الذي تلعبه المعارضة الإيرانية التي ذهبت إلى تصوير فخري زادة على أنه «أبو القنبلة النووية الإيرانية»، في محاولة لاستنساخ الدور الذي قام به حسين الشهرستاني في العراق عام 2002 والذي شكل أحد المرتكزات التي قادت إلى غزو هذا الأخير واحتلاله في العام التالي لهذا العام الأخير.
من المرجح أن تنتصر لغة العقل في طهران التي نجحت في ممارسة الصبر الإستراتيجي على امتداد أحد وأربعين عاماً كان فيها الكثير من الموجبات التي تدفع للتخلي عن تلك الممارسة، بانتظار انكشاف أولي لضباب واشنطن الذي سيكون على موعد مع الفعل يوم 20 كانون الثاني المقبل الذي من المفترض أن يحمل خطاب التنصيب الذي سيلقيه بايدن فيه الكثير من الإشارات على خياراته التي سيعتمدها في مواجهة الأزمات الساخنة، التي ستكون العلاقة مع إيران على رأسها، لكن هذا لا يعني إلغاء لرد فعل إيراني محتمل في هذه المرحلة يكون من نوع الهجمات التي تعرضت لها شركة أرامكو في شهر أيلول من العام الماضي، حيث للفعل هنا طبيعة مختلفة، بل من الممكن تبريره في سياق ضرب مصالح جوار ما انفك يعبث بالأمن الإيراني عبر تقارباته مع كيان يمثل الخطر الأكبر على استقرار إيران ونهوضها، إن لم يكن على تماسكها كدولة راسخة على امتداد عشرات القرون.