عادَ السجال التركي الفرنسي إلى الارتفاع، لكن هذهِ المرة بوتيرةٍ أعلى وبإيحاءاتٍ تبدو وكأنها مُستعادةً من جماجمِ جيش الإجرام الانكشاري الذي اندحرَ على أطراف النمسا يوماً، تحديداً تلكَ العبارة التي قالها رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان متوعداً فيها فرنسا في حالِ عدم تخلّصها من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتحويل السترات الصفراء فيها إلى حمراء، هل قصدَ لون الدم مثلاً؟
عادةً لا تملك الأنظمة السياسية ذات المرجعيات المذهبية إلا حديث التهديد بالدم والنار، لكن يبدو أن أردوغان هذه المرة وقعَ في مطبِّ التضليل الذي أبعدهُ عن الواقعية في فهمِ الحالة الفرنسية، وفي الواقِع، لا تبدو التصريحات الأردوغانية هذه المرة مُتعلقة فقط بالسجالِ الشخصي بينهُ وبين الرئيس ايمانويل ماكرون، تحديداً أن العبارةَ التي وردت في كلامهِ هي الساحة التي يُجيد أردوغان اللعب فيها لاستنهاضِ همم القطعان التي تتبعهُ، قومياً ومذهبياً، بل هي أبعدُ من ذلك لدرجةٍ تبدو فيها جهات أمنية ودبلوماسية فرنسية تتعاطى بالكثيرِ من الحذر مع هذا الكلام، حذرٌ مشروط بمراجعةٍ كاملةٍ لحالةِ العلاقة مع تركيا الأردوغانية، فكيفَ ذلك؟
لا أحد يختلف قطعياً على أن ماكرون أخطأ عندما استخدمَ مصطلح «الإرهاب الإسلامي»، حتى هو ذات نفسهِ اعترف ضمنياً بذلك وأكد أن هذا الكلام لم يكُن مقصوداً فيه الإسلام كديانة، حتى أن الكثير من الجهات الرسمية بمن فيهم رئيس الوزراء خرج بعد ذلك في حوارٍ ليؤكد أنه لا يوجد شي اسمه «إرهاب إسلامي».
أما الحديث عن أن الإسلام ديانة مأزومة تحتاج لمراجعة فربما أنها أثارت ما أثارتهُ من زوبعةٍ فقط لأنها وردت على لسان ماكرون، لكن أليست هذه المراجعة مطلباً لكثيرين في هذا العالم،
وخصوصا أن التناقضات بين المذاهب الإسلامية هي من حاول أردوغان اللعب عليها لاستنهاض همم قطعانهِ، فماذا كانت النتيجة؟
في الحالةِ الدينية فإن الإصغاءَ لما قالهُ معظم رؤساء الروابط الإسلامية أو أئمة المساجد في فرنسا منحَ فرنسا الرسمية الكثير من الثقة بتجاوزِ هذه المرحلة بعكسِ ما يشتهي أردوغان، أما النقطة الجوهرية الأهم التي تستند إليها فرنسا الرسمية فهي المقارنة الاجتماعية التي يعيشها المواطن الفرنسي المسلم بتلك التي يعيشها في البلدان التي تحمل رايةَ الإسلام، ومدى التزامه بالقوانين والتشريعات بعيداً عن ترهات عودةِ الخلافة وتطبيق أحكام الشريعة، بما في ذلك حجم الحرية الممنوحة له، فعلى سبيل المثال فإن فرنسا التي يتهمها أردوغان بمحاربه الإسلام حاولت التمييز بين الإسلام والمتأسلمين، وإن بقي السؤال الجوهري بجوابٍ مؤجل:
هل أن الإسلام لا يمكنه تقبل فكرة «حرية التعبير» أم إن لحرية التعبير حدوداً يجب أن تكون واضحة ومحددة لا تنتقي طرفاً وتترك الآخر؟
هذا يعني أن فرنسا ترى أن المجتمع محصن من أي انفجار بخلفية إسلاموية، لكن تبقى التخوفات هي من انفجارٍ من نوعٍ آخر، أي الانفجار القومي، فهل هذا ممكناً؟
في الحالةِ القومية، تبدو فرنسا الرسمية مرتاحة نوعاً ما لذلك، فهي بعكسِ جارتها الألمانية لاتمتلكُ جالية ضخمة من جذورٍ تركية يمكن لأردوغان اللعب على مزاجها، كذلك الأمر لا يبدو سهلاً في بلدٍ اجتمعت فيه الأصوات لإنقاذه من انتصارِ اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية مرتين خلال العقدين الأخيرين، أن يذهبَ نحو صدامٍ عرقي، لكن يبقى السؤال: كيفَ سيتم التعاطي مع أردوغان؟
يفضل كثرٌ من عُتاة السياسة الفرنسية فكرةَ الشماتة بالأوروبيين عموماً والفرنسيين خصوصاً على ما فعلهُ وما قد يفعلهُ أردوغان ببلدانهم من تحريضٍ ودعواتٍ للسيطرة على أوروبا، وصولاً لفكرة التجارة باللاجئين السوريين على مبدأ أنهم من ربى الوحش ليأكلهم، هم يصرُّون على فكرةِ أن تكون المراجعة للنهجِ الأردوغاني شاملة لجميع الأطراف وليس لطرف واحد فقط، على هذا الأساس ووفق رؤيتهم يمكننا تمييز العلاقة مع أردوغان بمرحلتين:
المرحلة الأولى، وهي مرحلة ما قبل «الربيع العربي» التي نختصرها بعبارةٍ بسيطة يكررها هؤلاء: «هو لم يكن صديقنا بل كان صديق الآخرين». في هذه المرحلة لا يبدو أن فرنسا أو أوروبا يتحملان عملياً مسألة الصعود الأردوغاني، تحديداً أن أردوغان خلال سني وجوده كرئيس للوزراء لم يكن صديقاً لأوروبا إلا في إطار العلاقات السياسية التي بناهَا أحفاد أتاتورك، بل هناك من ذهبَ أبعد من ذلك للقول إن النجم الأردوغاني بدأ بالصعود خارج الحظيرة الأوروبية التي تأكدَّ بأنها لن تُفتح له، هناك من يتذكر نصيحة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لهُ بالتوجهَ شرقاً وجنوباً، وكان لهُ ما أراد تحديداً في الشرق الأوسط بعد أن نسج علاقاتٍ كثيرة مع دولٍ محورية وباتَ بغمضةِ عينٍ رجلَ الصلاة في القدس، والوسيط «النزيه» لإدارة جولةِ مفاوضاتٍ في الملف النووي الإيراني، أينَ كانت أوروبا يومها؟
المرحلة الثانية، هي مرحلة ما بعدَ الربيع العربي، يومها كان الصعود الأردوغاني مرتبطاً بملفين أساسيين، الملف المصري والملف السوري، ففي الملف المصري لا تبدو أوروبا وكأنها من أوصلت الإخوان المسلمين للحكم في مصر، من دون أن ننسى أن هذا الوصول كان نقطة فاصلة بتمدد الطموحات الأردوغانية، قابلها الكثير من الغباء في التعاطي الأوروبي مع أردوغان حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن، لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن أوروبا لم تنتبه لخطورة الحالة الأردوغانية، وفي العودة لمرحلة الانقلاب على أردوغان هناك من لا يزال فعلياً يجهل مَن، ولماذا تمَّ ترتيبُ الانقلاب؟ وإن كانت تشير بوضوحٍ إلى دورٍ مركزي لعبهُ نائب الرئيس الأميركي يومها والرئيس المنتخب مؤخراً «جو بايدن» الذي لا يريد التعاطي مع أردوغان.
بواقعيةٍ تامة، كثر كانوا يدافعون عن فكرة إنقاذ أردوغان بالتذرع بأن البديل سيكون صيغةَ حكمٍ عميلٍ للولايات المتحدة الأميركية، أي إن المشكلة هنا لم تعد فقط بالنظرة لأردوغان ودوره الإجرامي في المنطقة، بل بالنظر إليه كشخص قادم من خارج المنظومة الأميركية، هذه المقاربة تقودنا لمقاربةٍ مشابهة لا يراها البعض ويمكننا اختصارها بالتساؤل التالي:
لماذا تريدون رحيل حكم آل ـسعود عن المملكة؟ هل أنتم ضامنون لبديلٍ وطني أم إن البديل الإخواني يمكن التعاطي معه تماماً كما يتم التعاطي مع أردوغان؟
في الخلاصة يبدو السجال الفرنسي التركي هذه المرة من دون خط رجعة، والكلام الفرنسي عن التصعيد نحوَ فرضِ عقوباتٍ على النظام التركي لم يعد مجردَ تهديداتٍ في الهواء، تحديداً أن فرض عقوباتٍ اقتصادية على دولةٍ مثل تركيا بضائعها تغزو الأسواق الأوروبية بطريقة مثيرة للاهتمام مثلاً لن يكون بالأمر السهل، هذه المراجعة وإن كانت متأخرة جداً ولا تعفي السياسة الأوروبية إجمالاً من التورط بدماء الأبرياء بطريقة قطيعية لا تختلف عن غيرها من الحماقات إلا أنها ونتيجة لتشابك الملفات في هذا العالم المضطرب بما فيهم ذاك الشرق البائس، قد تفتح الباب أمام الكثير من المراجعات ولجميع الأطراف، من هنا حتى استلام الرئيس الأميركي المنتخب مهامه الرسمية، من دون أن ننسى أن المراجعات يجب أن تستند لقاعدة أساسية:
في السياسة، من الطبيعي أن نخطئ في بعض الخيارات المحكومة بقراراتٍ فرضها الواقع، لكن ما ليس طبيعياً أن نستمر في هذه الأخطاء.