علينا انتظارَ تنصيبِ الرئيس الأميركي المُنتخب حتى نعلَم أين ستتجهُ الملفات الإقليمية والدولية.
هذهِ العبارة باتت أشبهَ باللازمةِ الموسيقية يجري تكرارها يومياً وبصورةٍ شبهَ دوليةٍ إن كان على الصعيدِ الرسمي أو الإعلامي، ولا نعلم حقيقةً إن كانت هذهِ العبارة هيَ هروبٌ من مواجهةِ الحقائق كما هي، أم انتظارَ حدوثِ معجزاتٍ ما تبدلُ في الوقائعِ الحالية التي ستُنتج المستقبل؟
ربما قد تبدو وجهةَ النظر تلك قابلة للتطبيق على بعضِ الملفات التي تتطلب إعادة تحديثٍ بمجردِ رحيل الرئيس دونالد ترامب عن البيت الأبيض، مثلاً ما هو مستقبل العلاقات «الخليجية -الخليجية» في ظلّ الإدارة القادمة؟ هل من الممكن أن تكونَ المسارعة لحلِّ الخلافاتِ تلك بما فيها إنهاء العزلة عما يسمونه «جار السوء» مشيخةِ قطر هو نوع من هذه النظرة الحذرة للعلاقة مع الرئيس المنتخب جو بايدن؟ ربما قد يبدو الوضع كذلك لكن على الدول الخليجية في النهاية ألا تُعطي أهمية كبيرة لما يهدِّد بهِ المسؤولون الغربيون لأن كلامهم لا يتعدى التجميل الإعلامي لحملاتهم الانتخابية، فالرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند قال يوماً بأنه لن يستقبلَ دكتاتورياتٍ محمية بالنفط، ليكونَ أول زائرٍ لهُ بعد انتخابهِ هو ملك البحرين!
لكنّ هناكَ نوعاً خاصاً من الملفات تبدو من الأهمية التي تجعلنا نراقبها لحظةً بلحظة، بما فيها تلك الفترة الانتقالية من ولاية الرئيس دونالد ترامب وصولاً لاستلام الرئيس المنتخب من عدمهِ، ولعلَّ أهم هذه الملفات هو ملف العلاقة مع إيران، وللتعاطي الموضوعي مع هذا الملف لابدَّ من الإجابة عن تساؤلينِ أساسيين:
أولاً: هل سيغامر ترامب باشتباكٍ عسكري ما مع إيران قبل نهاية ولايته؟
معظم من يروجونَ لحساباتٍ كهذه ينطلقون من فرضياتٍ عدة منها الحالة النفسية لترامب وطريقة تعاطيهِ غير المتزنة مع الملفاتِ الخارجية، وارتفاع حدة التصعيد الكلامي بين الطرفين، والأهم ما يراه البعض بسعي الرئيس الأميركي للعب بورقةِ الحرب عساه يتمكن من خلطِ الأوراق بما يتعلق باستمراره سيداً للبيت الأبيض.
هذه المقاربات تبدو شكلية ولا مفعولَ مادياً لها، فالتصيعد الكلامي بين الطرفين لم يتوقف لنقولَ إنه ارتفع، أما الهروب من الخسارة الانتخابية بمواجهة دولية فهو لا يصرف بميزان الحسابات الدستورية الأميركية وبمعنى آخر: لا توجد مادة دستورية تقول بأنه عند اندلاع الحرب فإن الرئيس القائم يبقى في منصبه، على العكس فإن ما يسعى إليه ترامب هو كسب حربٍ قانونيةٍ ودستوريةٍ تمكنهُ من البقاءِ لأربع سنوات قادمة وهو على الورق لم يفقد الأمل أبداً، لذلك فإن معركة قانونية كهذه من المفترض أن يقابلها تهدئة دولية وإقليمية، على هذا الأساس لا الولايات المتحدة بواردِ مهاجمة إيران، ولا إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة تفكر بمغامرة كهذه، هذا الأمر لا تثبته الوقائع السياسية فقط، لكنه يتخطاها إلى الوقائع على الأرض وبمعنى آخر: لماذا الحرب إذا كانت سياسة الاغتيالاتِ تؤتي أُكلها؟ هي فعلياً حتى الآن في إيران فقط أدت إلى خسارةِ شخصيتين هناكَ من يعتبرهما عملياً في الدرجتين الثانية والثالثة بعد المرشد علي الخامنئي!
«جو أوباما» أم جو بايدن؟!
عند انطلاق الحملات للانتخابات الأميركية، كان الإيرانيون يردّون على فكرةِ تفضيلهم لنجاحِ جو بايدن على دونالد ترامب بالقول بأن لا مفضَّلَ لديهم في هذه الانتخابات. ربما كانوا محقين في ذلك فالقصة ليست تفضيلاً لأشخاص بقدرِ ما هي تفضيل باحترام الاتفاقيات. النقطة الثانية والتي يمكننا قراءتها بين سطور التصريحات الإيرانية بأنه أياً كان الرئيس القادم فهو سيكون أفضل من دونالد ترامب، فكيف والقادم هو جو بايدن الذي شارك الرئيس السابق باراك أوباما البيت الأبيض ونجاحه مع وزير الخارجية الأسبق جون كيري بالتوصل لاتفاق تاريخي مع إيران حول ملفها النووي، على هذا الأساس هل هناك من يبني على فرضيةِ الوصول إلى شخصيةِ «جو أوباما» أم إن بايدن سيتخذ خطّاً مغايراً؟
ربما أن حالةَ الفراغ والضبابية في المشهد الإقليمي التي خلّفها انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، لا توحي لنا فقط بأهمية هذا الاتفاق مهما حاول البعض التقليل من قيمته، لكنها بذات الوقت توحي بحجم المتضررين الذين سعوا لإسقاطه. مشكلة الرئيس ترامب مع الاتفاق النووي لا يبدو بأنها نتجَت عن قناعاتهِ الشخصية، على العكس فهو لو تعاطى مع الاتفاق بعقليةِ رجل الأعمال التي يُتقنها، لعلمَ أن الانفتاح الاقتصادي على إيران وإلغاء العقوبات سيكون لهُ انعكاسات إيجابية على الطرف الآخر للأطلسي، لكنه بقي أسيراً لهاجسِ الولاية الثانية وفي النهاية بدا وكأنه فقد الاثنين معاً.
أما جو بايدن فهو حُكماً يتمتع بالخبرةِ السياسية التي تجعله يوازن بين المصالح والرغبات، لكنه مع ذلك قد يبدو مَدِيناً للشكر لدونالد ترامب لأنه أزاحَ عن كاهلهِ الاتفاق النووي مع إيران ليصبح هامش المناورة لديهِ أوسع، وربما هذا ما جسدته تصريحاته المتضاربة حتى الآن والتي بدت أشبه بالمزجِ بين الكلام المعسول للخارج وسياسة العصا والجزرة مع محيطه المؤثر، فهو مثلاً أدانَ عمليات الاغتيال لكل من قاسم سليماني ومحسن فخري زادة، لكن ماذا عن اغتيالِ شعوبٍ عبر الحصارِ المالي والاقتصادي؟! حتى ما يتعلق بالعودةِ إلى الاتفاق مع إيران فإن تصريحاته بدت متدرجة من انتقاد الخروج، مروراً بوعود العودةِ إن أعادت إيران التزامها بهِ، وصولاً إلى اشتراطِ العودة بوضعِ اتفاقياتٍ إضافية تعزِّز القيود على برنامج طهران النووي والصاروخي، أي أنه ببساطة عاد إلى الكلمة المفتاح التي استخدمها ترامب للانقلاب على الاتفاق، وهي البرنامج الصاروخي لإيران، على هذا الأساس يبدو أن بايدن قرر فعلياً أن يتقاعدَ من أي التزامٍ سابق خلال فترةِ وجودهِ كنائبٍ للرئيس زمنَ أوباما، والبدءَ عملياً بمهامهِ عبر شخصية جو بايدن دون أي رتوش! فماذا ينتظرنا؟
في الكثير من الملفات قد يبدو من السابقِ لأوانهِ الحديث عن توجهاتِ الرئيس الأميركي المُنتخب، لكن في الملف الإيراني تحديداً يبدو بأن فرصةَ شهر عسلٍ جديد هي أبعدَ ما تكون عن الواقع لدرجةٍ تجعلنا نتساءل: أيُّ شجاعةٍ امتلكها يوماً الرئيس السابق باراك أوباما حتى تمكنَ من تمريرِ الاتفاق؟ ربما هي ذات الشجاعة التي مكنتهُ من تمزيق المنطقة العربية عبر جحافل المتأسلمين ودماء الأبرياء، في الحالتين كان هناك شجاعة إحداهما استخدمت في المنحى الإيجابي والثانية استخدمت في المنحى السلبي، هذا المنحى لازلنا نعيش كوارثه حتى الآن لدرجةٍ باتت فيها مراكز الأبحاث السياسية الغربية تنادي فعلياً بفكرةِ أن العلاج الحقيقي لمشاكل هذا الشرق أيّاً كانت توجهات الرئيس الأميركي هي باستمرار حالة اللاحرب واللاسلم، حالة التهديد والتهديد المضاد وبمعنى آخر: هذا الشرق البائس لن يسقطَ من مزاد الأنظمة المتاجرة بالحرب إن لم يقرِّر هو أن يتمردَ على مآسيهِ.