في هذا الشرقِ البائس تتعددُ التسميات، مركز دراساتٍ إستراتيجية، إعلامية وغيرها من العناوين المبهرة، بِمضامينَ فارغة. بشكلٍ عام لا يمكننا إيجاد تعريفٍ واضحٍ لهذه المراكز، لكنَّ ما يمكننا هو الاستعاضة عن التعريف الجامع بالتوصيف المجزَّأ.
مبدئياً فإن هذه المراكز ليست منشآت خيالية، والانضمام إليها ليسَ من الصفاتِ الفخرية، فعندما نتحدث عن مركز دراساتٍ أو رئاسة مركز دراسات فإن هذا المركز يجب أن يكون مُعرَّفاً ومحدداً ليس بعنوانٍ وهيكلٍ تنظيمي وأقسام الدراسات فحسب، بل بما يمتلك من نتاجٍ فكري.
في النتاجِ الفكري، ليس المطلوب من مراكز الدراسات أن تُجاملَ الحكومات تحديداً على المستوى الداخلي، لأن المجاملات عملياً تعني تخليها عن نقطةٍ جوهريةٍ في دورها التنويري، من هنا يلعب التمويل دوراً مهماً جداً، إذ لا يعيب مركز الدراسات أن يتلقى تمويلاً حكومياً هذا موجود في كل دول العالم، لكن ما يعيبهُ أن يتحول باحثوه إلى جوقةِ تطبيلٍ للحكومة!
أن تكونَ باحثاً أو دارساً في مركزٍ للدراسات فهذا لا يعتمد على ما تمتلكهُ من «وساطة»، فالأمر ليسَ مجردَ وظيفةٍ للحصول على الراتب، هيَ تشبه فنَّ العمارة تتقدَّم فيها الموهبة على الدراسة، وبمعنى آخر:
من الغباءِ إطلاق لقب «دكتور» على شخصٍ لا يحمل هذه الدرجة العلمية، لكنه يعمل في مركز دراسات هو بالأساس وهمي، فإذا كان الشخص ليسَ لديهِ مصداقية في اللقب الذي يحملهُ فكيف سنصدِّق أبحاثه! في السياق ذاته فإن النظرة الإستراتيجية المتكاملة قد لا تبدو أحياناً بحاجةٍ إلى شهاداتٍ عليا، بقدرِ ما هي بحاجة إلى فطرةٍ في التحليلِ والربط وتمكنٍ من اللغات حتى يتمكن الباحث من رصدِ ما يُكتب بعدةِ لغات.
من الوظائفِ الأساسية لهذه المراكز رصد ما يُكتب في الدول المؤثرة، فعلى الباحث أن يكون قارِئَاً نهِماً، إذ لا يمكن لكَ أن تكون باحثاً إستراتيجياً وأنتَ تجهل ما يُكتب في صحافةِ بلدك! بالسياق ذاته لا يمكن أن تكونَ باحثاً ما لم تتمتع بموهبة الكتابة، الباحث لا يجلس ليكرِّر كلاماً حفظهُ القاصي والداني، الباحث هو الذي يحوّل تقاطعات ما يُكتب وتحديداً ما يعني بلده إلى أفكار على الورق، فعندما يخلو رصيدك من النتاج الفكري المكتوب فأنت متحدث في السياسة لا أكثر، ولا مكان لكَ في مراكز الأبحاث حتى الوهمية!
هناك من سيسأل: ما فائدة هذه الإيضاحات في هذا الوقت؟
دعوني أعترف بأن السبب الأساسي الذي دفعني للكتابة عن هذا الموضوع، ليست الألقاب المجانية التي يتم منحها هنا وهناك، وليست مراكز الدراسات الوهمية التي يدَّعي البعض رئاستها، السبب هو قرار الرئيس الأميركي المنتخب «جو بايدن» بتعيين «وليام بيرنز» رئيساً لوكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، وهو يشغل حالياً منصبَ رئيس مركز «كارينغي» للسلام وهي مؤسسة بحثية تُعنى بالعلاقات الدولية، تعيين يشرح الكثير عن الدور الحقيقي لمراكز كهذه وقيمتها، مقابل نظرتنا السطحية إليها.. لا أكثر..