من الصعب الاقتناع بأن قرار عودة المعارض الروسي اليكسي نافالني إلى بلاده من ألمانيا كان قراراً بريئاً، أو أنه كان قراراً فردياً، بل من الممكن الجزم بأن توقيت الحدث الذي جاء بعد أيام من وصول جون بايدن إلى البيت الأبيض لم يكن بريئاً أيضاً، فالأخير، كما عبر عن هذا بنفسه، ماض نحو «تحجيم» الدور الروسي، وأي طريق أمضى في سياق ذلك المسعى من ضرب الاستقرار وإشاعة الفوضى في دواخل من يراد تحجيمه؟
كانت تقديرات القابعين في قمرة القيادة التي قادت إلى ذلك القرار تقول بالتأكيد إن «كم الحطب» الذي تراكم في الكرم بات يلزمه فقط عود ثقاب أياً يكن حجمه، والمؤكد هو أن جزءاً من هذا التشخيص كان صحيحاً، بدليل الاحتجاجات التي انطلقت في العديد من المدن الروسية يوم السبت 23 كانون ثاني الماضي في أعقاب اعتقال نافالني ومعه مجموعة من المقربين، لكن مع سوء في تقدير النسبة بين كم «اليباس» إلى كم «الخضار».
الخطة بسيطة، وهي تقوم على دفع المعارض الروسي لأن يصبح عاملاً منغصاً لحكم الرئيس فلاديمير بوتين، عبر تسليط الضوء على «شجاعته» التي دفعته للعودة إلى روسيا بالرغم من المخاطر التي كانت تنتظره، والرهان هو أن تصبح تلك الشجاعة ملهماً لشريحة من الروس ترى في حكم الرئيس الروسي سلبياً، أو هو ضار بمصالحها، فتندفع وفق ذلك الرهان، نحو تمثل سلوك نافالني الذي لم يرهبه السجن، بل لم يضع في حساباته أن تطول مدة إقامته فيه لعدة سنوات، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى زعرعة استقرار روسيا عبر دعم الخارج لتمرد نافالني الذي يراد له أن يصبح محور المعارضة لسلطة الكرملين في الوقت الراهن.
لا يختلف هذا السياق المشار إليه عن سياقات «الثورات الملونة» التي بدأت في صربيا العام 2000، ثم مرت بجورجيا العام 2003 فأوكرانيا العام 2004، وصولاً إلى قيرغيزستان 2005 وبيلاروسيا 2006، ومن الملاحظ أن تلك الثورات كانت كلها في الفضاء السوفييتي السابق، حيث الرهان هنا على أن اهتزاز المحيط الروسي يمكن أن يؤدي إلى تغيير مماثل في الداخل وفق نظرية الدومينو وتساقط الأحجار، والمؤكد هو أن إخفاق ذلك الرهان هو الذي دفع إلى محاولة اقتحام العمق عبر أحداث 2012 التي شهدتها موسكو ومدن روسية أخرى.
نحن هنا لا نقول إن كل تلك الأحداث كانت ذات قوى دفع خارجية محضة، إذ من المؤكد، والطبيعي أيضاً، أن تكون هناك جماعات تشعر بالغبن تجاه السياسات التي تنتهجها حكوماتها، لكن الفعل الذي شهدناه في الأحداث التي شهدتها البلدان السابقة ما كان له أن يظهر بالطريقة التي ظهر عليها لولا «أثر الضوء» الذي كان احترافياً بطريقة تشير إلى عضوية العلاقة بين المحتجين في الداخل ومنابع الضوء في الخارج التي راحت تنقل صوراً هي أشبه بأفلام هيوليود المبهرة.
لم تتأخر ردود فعل الغرب بدءاً من إدانة الخارجيتين الفرنسية والألمانية وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي الذي قال إن دوله تدرس فرض عقوبات جديدة على روسيا، إلا أن مربط الفرس كان في الولايات المتحدة التي أعلن رأس هرم سلطتها «أنه مستعد لمناقشة القضايا الإشكالية مع روسيا لكن ذلك لا يعني تجاهل حقوق الإنسان فيها»، ولم يقف الرئيس جو بايدن عند هذا الحد بل أضاف في 26 كانون الثاني الماضي «قلقون للغاية بشأن السلوك مع نافالني، والتقارير عن منح مكافآت مقابل رؤوس الأميركيين في أفغانستان» والجملة الأخيرة وحدها كافية لأن تقرع في موسكو ألف جرس إنذار وإنذار.
أياً تكن النتائج التي ستؤول إليها قضية نافالني الذي سيعرض في الثاني من شباط على محكمة قد يخرج منها بحكم خمس سنوات كما تشير تقارير، وأياً تكن ردود الفعل في الداخل الروسي على قرار من هذا النوع، فإن التفكير الغربي بقيادة أميركية، تجاه روسيا لن يتغير، وفشل المحاولة لن يدفع إلا إلى تكرار واحدة أخرى ثم ثالثة ورابعة.
عمق السياسات الغربية تجاه روسيا يمكن أن تكشفه مراكز أبحاثها الرصينة، ففي أعقاب تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي أواخر العام 1991 نشر معهد استوكهولم للدراسات الإستراتيجية، وهو أحد أهم معهدين عالميين يعنيان بالصراعات الدولية، مقالاً تحدث فيه عن مستقبل الدولة الروسية، وجاء فيه بالحرف:
«إن الدولة الروسية سوف تعود إلى أن تصبح «دولة مدينة» إلى ما كانت عليه قبل العام 1512، حدودها حدود مدينة موسكو آنذاك»!
ولكن، هل كل ما تخطه السياسات الغربية، هي قدر يجب الأخذ به دون نقاش، أم إن الرياح تجري أحياناً، وربما كثيراً، بما لا تشتهيه السفن؟!