العقارات والذهب … أكثر «الادخارات» أماناً للسوريين … المعروض للبيع من العقارات أقل من الطلب والأسعار تتبدل بحركة زئبقية
| يسرى ديب
في نهاية خدمتها حصلت الدكتورة منيرة على تعويض، لم تكد تستلمه حتى فقد جزءاً مهماً من قيمته، وبين ليلة وضحاها تحول هذا المبلغ إلى عبء بالتزامن مع ارتفاع سعر الصرف والأسعار. لم تعد بضعة ملايين تجدي نفعاً، إذ لا تكفي لشراء عقار أو ذهب يصلح للادخار!
إن ارتفاع سعر الصرف السريع والمتسارع حول الليرة إلى عبء على حامليها، أو كما وصف الدكتور في الاقتصاد محمد كوسا حال الحاملين لأموالهم بالعملة السورية كمن يقبض على الجمرة في يده أو جيبه، ويسعى للتخلص منها.
لكن بالمقابل هنالك طلب يفوق العرض من شريحة تمتلك أموالاً أكثر لشراء العقارات، يقول صاحب مكتب عقاري في ضاحية قدسيا، إن عمليات البيع يتم تثبيتها في الحال ليضمن الزبون أن سعر العقار لن يرتفع بعد ساعة من الاتفاق، وذلك لأن أصحاب العقارات يسعرون في اللحظة مع كل حركة صعود للدولار، وبذلك يرتفع سعر العقار بين ساعة وأخرى لمبالغ تتراوح بين 50 إلى 100 مليون ليرة! والحقيقة أنه في المتابعة الميدانية مع بعض المكاتب العقارية كانت السمة البارزة للتسعير هي بالدولار، وفي أغلب الأحيان القبض بالدولار من تحت الطاولات!
وبالتزامن مع زيادة الطلب على العقارات، هنالك زيادة أيضاً في طلب الذهب، فقد أكدت الدكتورة منيرة أنها قصدت أسواق الذهب في مدينة جبلة لمدة ثلاثة أيام متتالية دون أن تحظى بمحل يبيع الذهب، بعدما امتنعوا عن عمليات البيع والشراء ريثما يستقر سعر الدولار.
تدفع إلى العقارات
الخبير العقاري الدكتور عمار يوسف يؤكد أن هنالك زيادة في الطلب على العقارات وصلت نسبتها إلى 30% مؤخراً، وأن هنالك ثقافة شائعة تسمى «ثقافة العقار»: وهي أن العقار لا يخسر، وأن ما عزز أيضاً من زيادة الطلب على العقارات هو تذبذب أسعار الصرف أيضاً، بشكل جعل الناس يفضلون شراء العقار أكثر من الاحتفاظ بالدولار، لأن البنك المركزي يرفع السعر ومن ثم يخفضه بشكل لا يعطي شعوراً بالاستقرار، وأضاف إنه لا يوجد أي مبرر اقتصادي لهذه القفزة في الأسعار سوى إخفاق إدارة الجهاز المركزي في ضبط السعر.
ومن القضايا التي طرحها الخبير العقاري وتساهم في زيادة الطلب على العقارات هو وجود معوقات في سحب أموال المودعين في البنوك المحلية، وتحديدها بمبلغ يومي لا يتجاوز المليون ليرة، ما يجعل عملية السحب لمبالغ كبيرة تحتاج إلى أشهر، ورأى أن من مشاكل الاحتفاظ بالليرة السورية أيضاً الحجم الكبير للمبالغ الكبيرة، فمثلاً أسعار الكثير من العقارات وصلت إلى المليار ليرة وهذا المبلغ بالليرات السورية يحتاج إلى مستودع ليتسع له، وكل هذا يدفع إلى التعامل بغير العملة المحلية من جهة، وإلى الإقبال على تثبيت الأموال بشراء العقارات.
ويلقي د. يوسف باللائمة على إدارة البنك المركزي في تدني سعر الليرة، ووصفها بغير الموفقة، لأنها تسببت في العامين الماضيين بارتفاع أسعار الصرف إلى أكثر من 7 إلى 10 أضعاف، ونحو 100 ضعف على القيمة الأساسية، وهذا يعني انخفاض قيمة الدخول إلى ما يعادل 12 دولاراً فقط!
نسأل رئيس جمعية الصاغة غسان جزماتي عن أسباب ارتفاع أسعار الذهب الحالية، فيقول إن السبب يعود إلى رفع تسعيرة الغرام بما يعادل أسعار دول الجوار لكي لا يتم تهريب الذهب، وأن الأسعار الحالية هي عبارة عن فورة مؤقتة، وسينخفض السعر عندما ينخفض سعر الدولار الذي بدأ بالانخفاض فعلاً وكذلك الذهب.
وبيّن جزماتي أن هنالك زيادة على الشراء وصلت إلى 20% وأن الطلب الأكبر هو على المسكوكات بقصد الادخار.
يدخرون بالليرة
وعن قراءته لظاهرة الإقبال على تبديل الليرة قال عضو مجلس الشعب زهير تيناوي ونقيب المهن المالية والمحاسبية في سورية، إن الاكتناز نمط في حياة معظم السوريين منذ الأزل، حيث اعتادوا على الادخار بطرق مختلفة سواء أكان أموالاً أو عقارات أو محلات تجارية أو سبائك ذهبية أو مصاغاً، لكن هذا لا يعني أنهم لا يتعاملون بالليرة، فالقسم الأكبر يدخرون أموالهم في البنوك، وهنالك ودائع كبيرة لعدد من السوريين في المصارف العامة والخاصة، وقد أوضح المركزي بتقرير صدر مؤخراً أن هنالك زيادة في الودائع بنسبة 64%.
أضاف تيناوي أن تراجع قيمة الليرة وتذبذب أسعار الصرف في السوق السوداء، حالة طارئة، سببها الأساسي العقوبات الجائرة المفروضة على سورية، ويتوقع أنه مع انتهاء الوضع الطارئ سيستقر سعر الصرف، وتصبح الليرة بوضع أفضل، ولكن خلال الأيام القادمة ستشهد البلد ضغوطات اقتصادية أكبر كلما اقتربنا من الاستحقاق الرئاسي للضغط أكثر على السوريين بعدم إجراء الاستحقاق.
عدم اليقين
في حين اعتبر الدكتور في الاقتصاد محمد كوسا أن اللجوء إلى تحويل العملة في أي بلد فيها حرب هو سلوك عالمي، يشتد عند حالات عدم اليقين بما سيحدث للعملة المحلية، لأن الذهب يحافظ على قيمة العملة، وأنه منذ 2015 لم يقلع الاقتصاد المحلي بمستوى جيد، وأن هنالك الكثير من الأسباب لذلك منها:
الحرب، وتخصيص مبالغ لإعادة تأهيل المناطق المحررة، وتوجه معظم الإنفاق العام لهذه المناطق، وكذلك انخفاض تأمين مستلزمات الإنتاج، وجائحة كورونا، كلها أسباب تسببت في تراجع الإنتاج، وكان هذا من أهم عوامل انخفاض قيمة الليرة، وفي الوقت ذاته انخفاضها تسبب بزيادة الطلب على استبدالها بالدولار أو الذهب من قبل عدد كافٍ من المتداولين، ما ساهم أيضاً في تخفيض قيمتها.
وقال د. كوسا إن هذه الحرب الطويلة كما في كل الحروب قسمت المجتمع السوري إلى طبقتين فقط، وإن نحو 80% من الشعب أصبحوا فقراء، في حين نسبة الأغنياء فعلاً لا تتجاوز 5%. وإن التداخل السوري اللبناني يجعل أي تغييرات تحصل في لبنان تؤثر في الوضع الاقتصادي في سورية ومنها سعر الصرف.
وأنه للخروج مما نحن فيه يجب العمل على تشجيع الإنتاج، والإنتاج الزراعي خاصة، وبطريقة إستراتيجية، وفتح الباب لمشاريع مضمونة تحقق عوائد، وما يحصل حالياً لا يحقق ذلك، فالقروض التي يتم منحها تصبح قيمتها متدنية مع استمرار انخفاض قيمة الليرة، لذلك يجب رعاية هذه المشاريع بطريقة مختلفة، والإقراض بطريقة غير تقليدية وميسرة أكثر.
أضاف د. كوسا: إن ما يطبق في الكثير من القرارات لا يخضع للدراسة الكافية ولا تنطبق عليه النظريات الاقتصادية، ربما يفرض الوضع الاقتصادي إجراءات كهذه، ولكن الحقيقة أن وضع الاقتصاد يحتاج إلى إدارات خلاقة ومبدعة تبحث عن حلول من خارج الصندوق، لأن استمرار انخفاض قيمة الليرة يحتاج إلى حلول، واستمراره سيضاعف من قلة الثقة بالعملة المحلية، والتوجه نحو اكتناز الذهب الذي يخنق الاقتصاد، في حين من يستطيعون التوجه نحو العقارات هم شريحة أقل لأن العقارات ليست لأصحاب العشرة والثلاثين مليون ليرة حالياً، بل هي لمن يمتلك 200 مليون ليرة وأكثر وهؤلاء يشكلون نسبة محدودة.