ثقافة وفن

الآثـار بين قبضـة السُّـلطات وجرائـم المُهرّبيـن … حجج هروب المجرمين أسهل من تطبيق القوانين!

سَـارة عيـسَى :

ترتسمُ مع الأيام تفاصيل خريطة تهريب القطع الأثرية من المنطقة، وتتوضح أساليب تخبئتها عن السلطات المحلية والقضائية في البلدان التي تطؤها كنوزنا، تتنوع طرق التهرب من القضاء، في حين يغضّ مسؤولو الحكومات النظر عن العصابات ليبقوا بعيدين عن المحاسبة والمسؤولية، رغم وجود الأدلة الدامغة على جريمتهم، وكأن هناك تعاوناً بين الأطراف المختلفة على عدم محاسبة المجرمين، وبالتالي لا يقوم القضاء بمهمته المنوطة به، إذا حماية الآثار من الاتجار غير المشروع، مسـؤولية مَـن؟
تتعامل داعش منذ بداية عام 2014 مع شبكة دولية من اللصوص والمهربين والتجار، لتصبح هذه السرقات صناعة مربحة، بعد أن تراجعت إيراداتها من النفط بسبب التطورات العسكرية على أرض الميدان.

قبل الحرب وبعدها
كانت تجارة الآثار رائجة قبل الحرب على سورية، لأنها بنظر الجميع متحف كبير، تتبدل الأيادي وتتغير الوجوه والجنسيات التي تتناقل التحف والتماثيل، لتصيّرها مقتنياتِ ديكور في فيلات كبار أثرياء العالم ورؤساء عصابات هذه الشبكة العالمية، تخزّن في مستودعات سرية 90% منها في تركيا وأوروبا وأميركا، والباقي يتوزع بين الأردن، لبنان والخليج العربي، بعض منها موانئ وأسواق حرة توجد داخل المطارات الدولية، يمكن أن تبقى لمدى عقود من دون أن تمرّ عبر الجمارك، وذلك حسب أغلب خبراء منطقة الشرق الأوسط، ويمكن أن ينتظر التجار إلى أجل غير مسمى لأن القطع تلفتُ نظر السلطات إن بيعت بعد سرقتها مباشرة، لذلك فالوقت الذي يمضيه التجار في انتظار الإفراج عن هذه القطع للسوق هو اللازم لتهدأ السلطات وبالتالي تضعف مراقبتها. السبب الآخر هو الفترة الزمنية التي تحدد توزيعها، وخاصة إذا وجدت قطع أخرى في السوق تنافس المخبأة في الموانئ والمطارات الدولية.
تغيّـرت سياسة التهريب بعد استيلاء داعش على المناطق الأثرية، والتي أنشأت مكتباً تجارياً في منبج بشمال سورية في خريف 2014، وانتشر الإرهابيون لمراقبة المواقع الأثرية، ومنع اللصوص من السكان المحليين والذين يكسبون عيشهم من بيع مقدسات بلدهم لـ»باليرمـو» العصر في جنوب شـرق أوروبا. بعدها قامت داعش باستدعاء المقاولين من مختلف الجنسيات، وأصدرت تراخيص للعمل وفق شريعتها الخاصة وفرضت الضرائب. من أجل ذلك اشترت داعش آليات حفر ثقيلة بدلاً من المعاول، آليات تدمّر الآثار بقصد أو من دون قصد. تبيّن صور الأقمار الصناعية في موقع دورا أوروبوس وإيبلا، بوضوح مناطق الحفر، وكأنها قطعة من الجبـن السويسري عاثت بها فأرة جائعـة، وفي أفاميا حفر اللصوص أكثر من 15000 حفرة خلال سنة واحدة. كما تبين بعد مصادرة «فلاشة» أحد زعماء داعش احتواؤها 36 مليون دولار مما نهب من النبك وحدها.
تعقب الآثار

يقول برينتون إيستر عميل سري لوكالة مقرها نيويورك مختص بقضايا الملكية الثقافية، عمل عشر سنوات بالتعاون مع دائرة الهجرة والجمارك في أميركا، إن المشكلة التي تواجه المحققين في تعقب القطع هي أن الأصلي والكامل منها يباع لأثرياء أعضاء في شبكات التهريب يعرفون مسبقاً ما يشترون، أما باقي الصفقات فتباع وفق «طقوس» خاصة بالتجار، تبدأ من بيعهم للزبون قطعة مزيفة على أنها تحفة تعطي مظهراً فخماً لركن من أركان المنزل، أو يمكن أن تكون هدية قيّمة لأحد الأصدقاء، ليختبروا ولاءه ورأيه ودرجة ارتياحه للموضوع، ونسبة وثوقه بمن يتعامل معهم للمرة الأولى ضمن هذا المجال، وهي طريقة خالية تماماً من المخاطر بالنسبة للبائعين. ويضيف: «نعتمد على مصادرنا الخاصة لتعقب المجرمين بمن فيهم الخبراء والتجار وشاحنو البضائع. «
أمثال إيستر من المحققين، لهم أدواتهم في كشف كذب التجار إن قدموا لهم أوراقاً يدعون صحتها القانونية، وذلك باستخدام البيانات التشريحية للصور الملتقطة، من خلال برامج استخباراتية خاصة تفيد في معرفة المكان والزمان اللذين التُقطت بهما الصورة، بعض الأحيان يمكن الحصول عليها من مواقع الانترنت حيث يمارس التجار نشاطهم، أو من أجهزتهم الخليوية وحواسيبهم أو رسائل بريدهم الإلكتروني، إضافة إلى عنوان بروتوكول الإنترنت (IP adress) الخاص بكل جهاز يملكونه، حيث حملت الصورة للمرة الأولى، كدليل على أنهم يكذبون.
تعتبر هذه المواقع وسيلة أكثر سهولة للتعقب من السكايب، لكن للأسف أصبح المهربون يتشاركون الصور الحية والمباشرة على هذا البرنامج مع الزبائن. تفيد الصور في الكشف عن القطع أثناء شحنها ما يخالف القوانين الاتحادية للممتلكات المسروقة، وبالتالي النيابة العامة بحاجة لإثبات أن المتهم كان يعلم أن القطع التي بحوزته مسروقة ما يعرضه مباشرة للعقاب. في كثير من الأحيان يُتهم المهربون بانتهاك قوانين الجمارك، لعدم إعلانهم عن الممتلكات الثقافية أثناء عبورهم للولايات المتحدة. يقول إيستر: «المخاطر قليلة بشكل لا يصدق في الولايات المتحدة لكنّ العائد كبير جداً.»

التهريب وغسيل الأموال
يذكر ماثيو بوغدانوس- مدعٍ عام في نيويورك ويعمل مع إيستر- أنّ: «هناك طريقة أخرى لاتهام المهربين هي تبييض الأموال، فعندما يزوّر المهربون أوراقاً ثبوتية للقطع لإخفاء منشئها، فهم يقومون بغسل الأموال وإنشاء واجهة مشروعة لصناعة غيرمشروعة». مع ذلك تبقى الولايات المتحدة الأميركية متخلفة عن غيرها من الدول الغربية التي لديها قوانين أكثر صرامة ضد تهريب الآثار. الجدير ذكره أن الخبراء توصلوا إلى أن هناك زيادة بمقدار 145% في الواردات الأميركية من الممتلكات الثقافية السورية، و61% من الممتلكات الثقافية العراقية، بين عامي 2011-2013 ما يشير إلى أنها تصل العملاء الأميركان، من خلال خرق قوانين الجمارك والسلطات.
يحاول ويليام كيتينغ، عضو الكونغرس من ولاية ماساتشوستس، تمرير مشروع لتعزيز التواصل بين التدريب والتواصل بين العملاء الفيدراليين، يقول كيتينغ إنه في الوقت الراهن، هناك شـحّ في تطبيق وفرض القوانين بين دوريات الحدود والـ(ICE)، فعلى الرغم من أن عملاء من الـ(ICE) يجرون تحقيقات حول الآثار المسروقة، فإن البضائع تعبر الجمارك وفرق حماية الحدود إلى الولايات المتحدة. ويعزي كيتينغ السبب إلى نقص في الخبرة والتدريب. سيتم وفق هذا المشروع تدريبهم من الموظفين في متحف سميثسونيان، لتحديد الآثار المسروقة في أثناء عبورها الحدود، ومن شأن المشروع توسيع التدريب ليشمل فرق الجمارك وحماية الحدود.
هناك ما يقارب 100 قطعة من الآثار السورية المنهوبة من داعش هُرّبت إلى بريطانيا وبيعت لدعم هذا التنظيم، تشمل الذهب والنقود البيزنطية الفضية، الأواني الفخارية والزجاجية التي لاتقدر بثمن، وشبهت صحيفة لندن «آثـار الدم» بصناعة «ألماس الدم» في إفريقيا، التي موّلت الحروب والصراعات في مختلف أنحاء القارة. قال كريستوفر مارينيللو مدير إنعاش الفن الدولي لصحيفة التايمز، إنه على تماس مباشر مع القطع الأثرية المسروقة سواء من شخص يحاول بيعها، أو صور تم إرسالها لشخص يشتريها، الفريق القائم عليه مارينيللو مختص بتحديد واسترداد المسروقات محط الجدل في تاريخ الفن والتراث. وأضاف: «كل قطعة من هذه القطع تساوي عشرات الآلاف من الدولارات، وكلما كانت فريدة التصميم نادرة المثيل، ارتفع مستوى التدقيق بها وفحصها، ومعظم جامعي التحف يميلون لتجاهل القطع الثمينة الكبيرة الحجم ويفضلون المتوسطة والصغيرة، والتي يتصاعد خط بيانها التجاري أكثر من غيرها، فللقطع النادرة عملاؤها الخاصون».

النسبة مفتوحة
كما نقِل عن مايكل دانتي عالم آثار أميركي بجامعة بوسطن وعضو في (ASOR) قوله: «من المعروف أن الآثار النفيسة هُربت من المناطق التي تسيطر عليها داعش إلى الخارج».
وصرّح بروفسور التراث الأثري في جامعة سوفولك، ديفيد جيل لإذاعة BBC4، عما يحصل معه أثناء جولاته في المتاحف وصالات العرض في لندن، في استطلاع لمعرفة إن كان يستطيع تمييز القطع المهربة هناك عن غيرها، ولخّص التجربة بالآتي: «ذهبتُ إلى أحد المعارض وكانوا يتحدثون عن قطعة. قال أحدهم بكل صراحة: لقد حصلنا عليها للتو من سورية، ثم تابع قائلاً: «حسناً، القطعة مثيرة للاهتمام وهي من العراق». ختم جيل كلامه بأن الأمور مفتوحة على كل الاتجاهات».
من ناحيتها قالت المتحدثة باسم شرطة العاصمة البريطانية للتايمز إن الشرطة لديها أربعة تحقيقات حية، تتطلب اتصالات مع السلطات القضائية الأجنبية، وإلى الآن لم يتم اعتقال أي مهرب، وهذا ما نراه في معظم عواصم ومدن اقتناء هذه التحف، حيث لا تؤخذ القضية على محمل الجد.
أيعقـل ألا يكون هنـاك مَنْ يُحاسـبُ على هذه الجريمة في ظل كل قوانين الجمارك وحماية الممتلكات الثقافية الموجودة، أم إن الحجج على فلتان المجرمين وأساليب هربهم من قبضة العدالة أسهل بكثير من تطبيق قوانينها؟ من هذا المنبر نطالب كل من تخوله سـلطتهُ انتشال هذه الآثار من بين أيدي العصابات، وألا يتوانى عن ذلك بل أن يسـعى لمحاسـبة كلّ لصـوص التاريـخ والآثـار السـورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن