عن تشويهِ الرموز والقراءَة الفوضوية للتاريخ: ألا يزال الجلاء مجيداً؟
| فرنسا ـ فراس عزيز ديب
على مقاعدِ الدراسة، في البيت، في الحي، في كل مكانٍ كان يوم السابع عشر من نيسان فرصة لنا لاستعادةِ الكثير من القصص التي يرويها الأجداد عن عظمةِ يوم الجلاء، كنا نكبر ويكبر معنا حب الرموزِ الوطنية التي صنعَت جلاءَ القوات الفرنسية عن سورية، والأهم حفاظها على سورية الموحدة.
لكن ومعَ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بالتزامنِ مع استعار الحرب على سورية، تحولت الذكرى إلى فرصةٍ جديدة للتشفي، باتَت أشبه بسوقِ عكاظٍ يتهافت فيهِ البعض للتباكي على رحيلِ الاستعمار الفرنسي من جهةٍ أو للضرب بقدسيةِ هذه الرموز من جهة ثانية.
على الطرف الآخر قد لا يقل الوضع سوءاً تحديداً عندما تحكمنا المبالغات في الدفاع عن الشخصيات التي نحبها، وصولاً إلى إصرارنا على المزجِ بين ما هو شخصي وما هو وطني، لتنتهي هذهِ المعركة السنوية بمجموعةٍ من الشتائم التي تثبت حجمَ الجحيم الذي نعيشهُ، لدرجةٍ بتنا فيها لا نتفق حتى على الرموز.
المشكلة الأعمق هنا أننا لا نتحدث عن طرفٍ معارض ومؤيد لأن «المعارض» لا يزال يعيش حلمَ استعادةِ خلافة الإجرام العثمانية وليس له مصلحة في الدفاع عن «كَثْلكةِ» سورية على الطريقة الفرنسية، نحن نتحدث عن طرفينِ في خطٍّ واحد، خلاف يجعلنا ببساطةٍ نطرح تساؤلاً جوهريَّاً:
ألا يزال عيد الجلاء فعلياً هو ذاك اليوم المجيد الذي تربينا على الاحتفالِ به؟
للإجابةِ عن هذا السؤال لابد من نقاش فكرتين أساسيتين:
أولاً: قداسة شخصية أم قداسة رمزية؟
إن أيّ فكرة لربطِ صفة القداسة بالأشخاص هي فكرة ناتجة عن جهل وتؤدي لمزيد من الانحلال في المجتمع، فكل ما هو بشري خَطَّاء، وكل من يخطِئ لا قداسَةَ له، لكن هذا لا يعني أن نرجمهُ على خطأ في الخيارات! القداسة تكون للأفكار أو للقضايا التي يدافع عنها، وبالتالي فإن تقييمنا لأي شخص يشتغل بأمورِ العامة يأتي من موقفنا تجاهَ القضية التي يتبناها، وتوصيفه هو امتداد لقداسة المُدَافع عنه.
بذات السياق علينا الفصل بين الشخص، وبين دوره في صناعةِ تاريخ بلده، فشارلمان مثلاً الذي لقب بـ«أبي أوربا» قائدٌ بكاريزما عليها الكثير من الانتقادات بما يتعلق بحياته وطموحاته الشخصية، لكن لا أحد في فرنسا مثلاً يقزِّمه أو يقزِّم دوره بتحقيق وحدة أراضي الإمبراطورية الكارولونجية، حتى الدراسات والأبحاث التي تناولت أخطاءه بما فيها صراعهُ مع الكنيسة، استندت لوثائق وثبوتيات مؤرشفة، أي إن الانتقاد أو محاولة توثيق الأخطاء التي ارتكبتها هذه الشخصية أو تلك يجب أن تنحصر بما يتعلق بدورهِ على المستوى الوطني وليس بخياراتهِ الشخصية!
هذا يقودنا للبديهية الأهم بأن من يريد فعلياً تقديم رؤية جديدة لتاريخ بعض الشخصيات عليهِ أن يفعل ذلك بحيادية تامة، من دون وجهات نظر مسبقة مرتبطة بطريقةِ تفكيرنا، بل بطريقةِ تفكيره هو انطلاقاً من الظروف السياسية والتاريخية التي كانت محيطة به.
على هذا الأساس يبدو كل من يحاول تقديم سمومه بمُسمى «النظرة الجديدة لتاريخ سورية» عاجزاً عن إعطاءِ تحليلٍ منطقي وعقلاني لكلِّ أفكاره، عبارة عن مجموعة من الروايات التي يعج بها موقع «ويكيبيديا» التي ليسَ فيها أي توثيق، واللافت أن من يقذف بعض تلك الشخصيات باتهاماتٍ طائفية، سترى قرفهُ الطائفي ينفجر كأفاعي الشر من بين حروفه. أما الأخطر من الذي يتبع منهج النقل لا العقل فهو «شبه المثقف» الذي يستند بمرجعياتهِ إلى ادعاءاتِ عدوه، هل كنا ننتظر مثلاً من فرنسا أن تصف الشيخ صالح العلي بالبطل؟ هل تثقون بالديمقراطية الفرنسية لدرجة الاعتقاد بأنها ستصف إبراهيم هنانو بالمناضل العابر للطوائف؟!
هنا قد يسأل البعض، إذن نحن أيضاً عندما ندافع عن هذه الشخصية أو تلك فإننا لا نستند إلا لرواية تدعمهم؟ الجواب على هذا الكلام بسيط، تعالوا لنحاكِم النتيجة، هل استسلم هؤلاء لتقسيم سورية طائفياً؟ هل بحثوا عن مناصب أو تقديس أم إن قداسة القضية التي دافعوا عنها هي من جعلتهم رموزاً؟!
ثانياً: محاكمة قاصرة لفترة الوجود الفرنسي في سورية.
في فرنسا يرفض كُثر من المحاورين فكرةَ أن الوجود الفرنسي في سورية كان احتلالاً، هم يركزون على مصطلح الانتداب، هذا الفرنسي قد لا يعرف سورية أين تقع لكنه يرفض وصمَ بلده بالمحتل، هيَ بالنسبةِ له كانت مُنتدبة من عصبةِ الأمم لمساعدة السوريين على بناءِ دولتهم.
في سورية الوضع مختلف، لا أدري حتى الآن لماذا نصر على تسميتها فترة انتداب، نتفهم أن تزوير التاريخ عبر استخدام مصطلح «الفتوحات العثمانية، الفتوحات الإسلامية» محكوم بإصرار البعض على رؤيتها كذلك، لكن ماذا عن الاحتلال الفرنسي؟ لماذا نسميهِ انتداباً؟ النقطة الثانية أن معظم من يُحاكم هذه الفترة بطريقةِ الحنينِ إليها، علماً أن الفرنسيين خرجوا من سورية ربما قبلَ زواج جدته من جده، ينطلق من ثابتتين أساسيتين:
الثابتة الأولى، هي حقد على ما يسميها «دولة البعث»، بالنسبة له فإن بقاء فرنسا كان حُكماً سيرسِّخ مفهوم الديمقراطية والتعددية السياسية أكثر، وبالتالي كنا لربما وصلنا إلى مرحلة فيها الكثير من الانفتاح.
طبعاً هذه المحاكمة تبدو قاصرة فحزب البعث لم يصل إلى السلطة بعد خروج المحتل الفرنسي مباشرةً، والأهم أن فرنسا بقيت في سورية لأكثر من عقدينِ ونصف فلماذا لم ترس أسس التعددية تلك؟ بالإطار العام تستطيع ألا تحب حزب البعث وأن تنتقدهُ، لكنك عندما تقدم مقاربة ما ضده عليكَ ألا تخلط الحقائق، فهمروجة جعل الحزب هو المسؤول عن كل الأخطاء باتت مسرحية مكررة لدرجةٍ بتم فيها تخدمون الحزب من حيث لا تدرون!
الثابتة الثانية، هي النظرة لفكرةِ علمانية الدولة، فهناكَ من يرى بأن بقاء فرنسا كان سيعني حُكماً تكريس علمانية الدولة السورية، وإقصاء الإسلام السياسي إلى الأبد، لكن هذه المقاربة تبدو كذلك قاصرة، إذ كيف لك ببساطة أن تعتقد بأن فرنسا تريد بناء دولة علمانية وهي أساساً كانت ساعية لتقسيم سورية طائفياً؟ ألم تقم بفصل لبنان عن سورية بجهودٍ طائفية لأنها كانت بحاجة إلى اقتطاعٍ جغرافي يمثِّل مصالحها السياسية عبر الوتر الديني، فالتقت هذه النظرة مع نظرة البطريركية المارونية يومها والتي كانت تشتكي عدم تلقي «المسيحيين في الشرق» الدعم الكافي للدفاع عن أنفسهم!
هل غابَ عن ذهنهم بأن فرنسا بقيت في الجزائر لقرنٍ ونيِّف فلماذا لم تقِم لهم نظاماً علمانياً، بل على العكس فإن من أسوأ القرارات التي اتخذتها السلطات المحتلة مرسوم في العام 1904، والذي يقضي بمنع أي معلم فتح مدرسة قرآنية إلا بترخيصٍ وشروط معقدة جداً، علماً أن هذا المرسوم صدر قبل عامٍ حتى من تبني فرنسا نفسها رسمياً «علمانية الدولة»، وصولاً لقانون آخر حظر استعمال اللغة العربية واعتبارها لغة أجنبية!
أما فكرة التغني بالمباني والجسور فهي نكتة سمجة، وكأن الأموال التي استخدمها الفرنسي لم تكن أموالنا كسوريين، وكأننا بعدَ خروج الفرنسي وصولاً لفترةِ ما قبل الحرب على سورية لم نصنع شيئاً، وهنا سأتكلم بلسانِ المواطن السوري لا بلسان حزب أو نهج سياسي فلديهم من يكفي للكلام بلسانهم، ألم نصنع كسوريين إعجازاً اسمه سد الفرات؟ ألم ننشئ مدناً كاملة وشبكات طرقٍ ومعامل! لماذا تتجاهلون كل هذا؟!
في النتيجة نبدو بأننا أمامَ حربٍ جديدة من حروب كي الوعي التي تقوم على طرح الأكاذيب في العالم الأزرق، ليصار إلى تبنيها من ضعاف المعرفة وتصبح بالنسبةِ لهم ثوابتاً وصولاً إلى تبرئة الجاني واتهام الضحية، ودعونا لا ننسى أنك في هذا العالم الأزرق تصبح بطلاً عندما تشتم وتتكلم بلسان طائفي، تصبح بطلاً عندما تقدم نفسك كشخص مثقف عابر للخطوط الحمراء بالتهجم على الكبار، وفي حقيقة الأمر أنتم لستم أكثر من فقاعات فيسبوكية ستتلاشى يوماً ما، دعكم في غبائكم، ودعوا لنا جلاءنا لأنه كتب بدماءِ أجدادنا لا بخطاباتكم الرثّة، وبطريقة أكثر شرحاً:
دعوا القلبَ يقرأ من حكمةِ صالح العلي، ويستنير بنورِ وجه سلطان باشا الأطرش حتى يستلهم إصرارَ إبراهيم هنانو، عندها فقط يصغي لصوتِ النواقيس وهي تبتهل: الوطن قام.. حقاً قام.