بلغ بي الجنون أني صرت أفتش عن أحد يفهم مأساتي … حنا مينة: المعاناة على قسوتها لا تخلو من الفرح ما دامت تقترن بالكفاح
| إسماعيل مروة
منذ صدور رواية (المصابيح الزرق) للروائي السوري الكبير حنا مينة، كرّس اسمه كاتباً روائياً، وأطلق عليه لقب نجيب محفوظ سورية، وأخذ حنا مينة بنشر رواياته المتتابعة إلى ما قبل الرحيل، وصار اسمه الروائي الأول في سورية، ريادة وشعبية وشهرة، على الرغم من الاختلاف بين النقاد والمؤرخين حول أدبه، هذا الخلاف الذي يرتكز في جوهره على فروقات أيديولوجية، أو قراءة طبقية حول قاع المجتمع وما يطفو على السطح.. ولكن حنا مينة استطاع أن يأخذ الريادة تاريخاً وفناً، وساعده على ذلك أسلوب رائق، وتبنٍ كان من دور نشر عربية عامة وخاصة، جعلت رواياته بين أيدي أكبر شريحة من القراء، علاوة على تقديم السينما السورية، ممثلة بالمؤسسة العامة للسينما عدداً من أعماله الروائية، ومن ثم جاء التلفزيون ليقدمه إلى شريحة أوسع.
حنا مينة والموضوع
مما لاشك فيه أن من أطلق على حنا مينة لقب نجيب محفوظ سورية، أطلقه لا لتشابه الأسلوبين، فالفرق كبير بين ما يكتبه حنا وما كتبه نجيب، سواء من حيث اللغة أم الغايات، لكن هذا اللقب أطلق عليه لأن حنا يتشارك مع نجيب في آليات تشريح المجتمع، والعناية بالتفاصيل الصغيرة التي تشكل النسيج لهذا المجتمع الذي ينتمي إليه، ومع أن الحدث في الشراع والعاصفة ليس بغنى الحدث البيئي عند نجيب محفوظ، إلا أن تناول المجتمع كان واحداً، ولم يغفل حنا عن أي تفصيل من التفاصيل البيئية والنفسية، كما كان يفعل نجيب محفوظ دون أن يمنعه من ذلك مانع، وزاد حنا لغة أكثر وضوحاً، وأكثر قرباً من الشارع والعامة، بكل ما تسببه هذه اللغة الشعبية من حرج للكاتب، بل استمر حنا بذلك وعمّقه في لغته إلى الروايات الأخيرة، واختار أحياناً من هذا الدارج عناوين لرواياته.. وسنجد أن هذه اللغة الواضحة البسيطة، والمكشوفة أحياناً، وصلت إلى حديث حنا العادي، وزاد على ذلك أن صارت من مفرداته النقدية كما في كتابه الجميل الذي لم يأخذ حقه من الذيوع والانتشار، مع أنني أزعم أن هذا الكتاب (الجسد بين اللذة والألم) والمصنف في الدراسات، وهو أكثر قرباً إلى العالم الروائي والسيرة الذاتية، يحمل أهمية كبرى قد تتفوق على عمل روائي أو أكثر، وهذا الكتاب على رفوف مكتبتي قرأت منه صفحات عند صدوره، ونحيته جانباً لقراءته، لكن مشاغل الزمن أبعدتني عنه، وها أنذا أعود إليه لقراءته، وأكتشف مقدار ما فيه من معرفة وعلم، وآراء سياسية واضحة ومفاجئة، بل صادمة، وتستحق أن يتم الوقوف عندها، بل مناقشتها، والكتاب من إصدارات وزارة الثقافة السورية- الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2012، وأول ما لفت انتباهي، وصرت أقلب الكتاب على وجوهه مستغرباً هو صدوره عن وزارة الثقافة، وبهذا الهامش الواسع من الحرية الفكرية والسياسية، ولعلّ هذا يمكن أن يكون دليلاً لما نراه من ضيق في الأفق الرقابي، ولا أعتمد في ذلك على أن الكتاب نشر ولم يقرأه الناس بما يكفي، بل اعتمد على أن ما يريده المبدع يمكن أن يقوله، وعبر قنوات محترمة، ويخضع للنقاش للوصول إلى مرحلة من التبادل الثقافي بين الناس فيما بين أفراد المجتمع الواحد والمؤسسة الواحدة، وأتابع الزعم بأن هذا الكتاب، لو قدّم مخطوطاً باسم حنا أو سواه اليوم، فإنه لن يجد فرصة للنشر كما هو دون أن تطوله ملاحظات الحذف والتغيير، وربما يصل الأمر إلى الرفض، مع العلم أنني مع النشر، ولست مع الرفض والتحفظ، فالعالم الرقمي والافتراضي اليوم لا يحقق متعة المنع للمانع، ولا يحقق الفائدة من منع الممنوع، وكل ما يفعله هو أن يحوّل الكلام الممنوع- طبعاً ليس في حالات الكتّاب الكبار كحنا- إلى كلام مطلوب، ويتحول الكاتب المتواضع إلى بطل! كل ما أريده هو الإشادة بالنشر، والرغبة في نقاش المنشور الذي قدمه حنا مينة في موضوع هو أقرب للسيرة الذاتية.
استكمال المحطات
نشر الأستاذ حنا مينة في تسعينيات القرن العشرين قسماً من سيرته في كتاب (الرياض) وهو سلسلة تصدر عن جريدة الرياض، ويبدو أن طبيعة المنبر والمكان فرضا عليه أن يكتفي بتقديم السيرة الأدبية، بل أن يقدم جزءاً من السيرة الأدبية، وقرأت ذاك الكتاب الذي أظن أنه لم يوزع في سورية جيداً، فرأيت معالم الكتابة الروائية عند حنا مينة، دون الدخول في التفاصيل التي عهدناها في حياة الأدباء.
وفي حياة كاتب من وزن حنا مينة، ويحمل طريقة العيش الخاصة التي يحملها، وأذكر أنني شاركت الكاتب الكبير في ندوة عقدت في بيروت عام 1994، وبمشاركة أستاذي الراحل مسعود بوبو، وكان لي أن رافقته الرحلة وكنت إلى جانبه، وما سمعته منه ويده على كتفي ليس ما قرأته بعد سنوات في سيرته بشيء أمامه! واليوم حين عدت مصادفة لقراءة كتاب (الجسد بين اللذة والألم) رأيت أن حنا مينة تحت هذا العنوان، وتحت تصنيف دراسات عربية استكمل سيرته الأدبية والسياسية والروائية، لكنه استكملها بحرية لم يفرضها المنبر الذي نشر سيرته، إضافة إلى وجود بعض الدراسات والمقالات، وتنضوي تحت السيرة أيضاً، تنتمي إلى مرحلة لاحقة أدركت الحرب على سورية، وما جرى على أرضها، وإن كان حنا لم يدرك الخواتيم، لكن قراءته السياسية كانت أكثر من واعية، وأكثر من مستشرفة، وهو الشيخ الحكيم الذي عركته الدنيا فما هزمته، وصارعته فما صرعته، وبقي محتفظاً بآرائه وذكرياته، ووفياً لها ولرفاقه الذين انتمى إلى خطهم السياسي، ولم تغير الأيام وتغير الأشخاص من هذه القناعات، وبقي حبيس مرحلة فكرية رآها تغلغلت فيه، وها هي تستأثر بحروف ومقالات غاية في الأهمية.
مرافئ السياسة والمفاجأة
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: في السياسة وأشياء أخرى، مرافئ السيرة وأشياء أخرى، في الكتابة الأدبية والروائية، وهذه الأقسام الثلاثة تنتمي ودون أدنى شك إلى السيرة الذاتية، وتستكمل في كتاب وصل إلى 500 صفحة من القطع الكبير سيرة جاءت بأقل من النصف في كتاب الرياض قبل أكثر من عقدين من نشر هذا الكتاب.. وإشارة السيرة واضحة في تقسيمات حنا نفسها، وإن لم يشأ العنونة، فالأول سيرة سياسية في آرائه، والثاني سيرة في حياته، والثالث سيرة في كتابته وتجربته.. وللحق فإن القسم الأول استهواني كثيراً، وربما أقول فاجأني بوقائع لم أشهدها لأنها كانت قبل وجودي وتكويني.. وصدمت من كمّ العنف الذي تحدث عنه حنا الرفيق والكاتب، هذا العنف الذي لم أكن لأتخيله، مع أن ما حدث فيما بعد يؤكد وجود النزعة العنفية في المجتمعات المتخلفة التي لا تقبل خلافاً فكرياً أو أيديولوجياً من أي نوع..! ويصل العنف حدّ القتل والتصفية من القوي المتحكم ضد المختلف عنه والذي لا يملك القوة! والذرائع ليست واهية، بل موجودة، لكنها مرفوضة تماماً، لأن الطريق في الحوار والنقاش لا القتل والعنف «في العام 1949 وافق الاتحاد السوفييتي على قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين بين العرب وإسرائيل، واتخذ الحزب الشيوعي قراراً بالموافقة على قرار مجلس الأمن، وكان جميل مردم بك المعروف بثعلبيته رئيس الوزراء آنذاك، فاغتنم موافقة الحزب الشيوعي على قرار التقسيم حتى ينتقم منه، وبخبث شديد، وما لوطواط يتحرك في الظلمة، بعث برجاله لإثارة الرعاع من كل صنف، وتوجيههم لمحاصرة مكتب الحزب الشيوعي، وإحراقه بمن فيه، وتمّ له ما أراد..» هذا المقطع من مقالة يتحدث فيها عن الشيوعي العتيق يوسف الفيصل، وعن استبساله في ذلك اليوم، حتى نجا رفاقه، وبعيداً عن التفاصيل الروائية المذهلة في المجريات، فإن حنا مينة سجل هنا للتاريخ واقعة دموية عنيفة جرت في ذلك اليوم بحق آخرين اختلف معهم رجال السلطة بالرأي، ومنذ صدور هذا المقال أولاً صحفياً، وثانياً في كتاب لم نجد من يقف عنده مناقشاً! وكأنّ الأمر جدّ طبيعي! فهل كان جميل مردم هكذا؟ وهل دفع بالرعاع حقاً كما يقول حنا مينة؟ وأسئلة كثيرة تدور في الذهن، والقارئ يتابع ليلة عنفية فظيعة، إن كانت مجرياتها بهذه الطريقة، فهي بحاجة لمناقشة وعلاج منذ أمد بعيد، وإن لم تكن كذلك، فنحن بحاجة إلى من يكتب في الموضوع ويناقشه، ويناقش وثائقه حتى لا تبقى الأمور غائمة وبعيدة! إلا إذا جاء وقت لا يعرف السوريون من هو جميل مردم بك ولا يوسف الفيصل!!