نعم زالت الطرابيش الحمراء عن رؤوس الأغلبية الساحقة من السوريين، لكن ما يزال هناك نسبة لا بأس بها ممن يلبسون الثياب الحديثة يرتدون، على مستوى الوعي، الطرابيش الحمراء تحت جلودهم، ويصدقون الأساطير الوردية التي نسجتها آلة الدعاية (العثمانية) وعممتها على مدى قرون. قبل أيام أدلى سامي رشيد محامي عائلات حي الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة بتصريح صادم قال فيه: «كانت القضية قد حسمت لمصلحتنا عام 1987 لولا ظهور وثائق تركيا».
وكشف المحامي رشيد دور تركيا في تغطية الجريمة التي يعمل الصهاينة على اقترافها الآن بحق القدس وأبنائها، يقول: «في عام 2005 سلمت تركيا لإسرائيل وثائق عثمانية يرجع تاريخها لعام 1875 تقول إن معظم بيوت حي الشيخ جراح ملك لجمعيات يهودية».
«كما سلم الأتراك لسلطات الاحتلال «وثائق بيع مجمع المحاكم العثمانية غرب الأقصى لجمعيات يهودية بالتاريخ نفسه». ووثيقة ملكية أرض مقبرة (مأمن الله) لجمعية يهودية». ويضيف المحامي: إن «أردوغان شخصيا سلم هذه الوثائق لشارون».
بعد أن «رفض تسليم الأرشيف العثماني الخاص بملكية أراضي فلسطين للرئيس أبو عمار». ويبدي المحامي دهشته واستغرابه لذلك إذ يقول: «العجيب أكثر أن من يدين الاعتداء على القدس اليوم هو أردوغان».
والحقيقة أن أردوغان يسير على نهج «السلطان الأحمر» عبد الحميد الثاني، الذي نسجت له آلة الدعاية العثمانية صورة حاكم «مصلح عادل، حكم دولة مترامية الأطراف متعددة الأعراق بدهاء وذكاء، ومدّ في عمر الدولة والخلافة العثمانية، ووقف ضد الأطماع الاستعمارية الغربية لاقتسام تركة رجل أوروبا المريض»، فكثير من العرب الذين ما يزالون يرتدون الطرابيش تحت جلودهم يؤمنون أن السلطان عبد الحميد هو الذي «حافظ على عروبة فلسطين من خلال الفرمان الذي أصدره سنة 1882 والذي يمنع دخول اليهود إلى فلسطين، إلا في حالة الحج والزيارة التي يجب ألا تتعدى ثلاثة أشهر، وأنه فرض عليهم المثول أمام الإدارات العثمانية المكلفة حراسة الحدود لتسلم جوازات سفر تبين عقيدتهم الدينية، وألزموا بارتداء لباس يخالف لباس الفلسطينيين».
وهناك وثيقة شائعة ممهورة بختم السلطان عبد الحميد يقول فيها: «انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات شديدة في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملكاً لي بل ملك لشعبي، لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه… فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت إمبراطوريتي فلعلهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن».
ليس هذا وحسب بل إن الأسطورة تقول إن عبد الحميد قد قام بطرد تيودور هرتزل من مجلسه عندما عرض عليه عدة ملايين من الليرات العثمانية الذهبية كهدية شخصية له، وبضعة ملايين أخرى كقرض للخزينة العثمانية. وقد عملت حكومة أردوغان على تكريس هذه الأسطورة، من خلال المسلسل التلفزيوني الضخم الذي أنتجته مؤخراً عن السلطان الأحمر عبد الحميد بهدف «رفع الظلم عنه»! وتكريس صورته كمدافع عن عروبة فلسطين رغم أن الوثائق التاريخية تثبت أن السلطان عبد الحميد سمح سراً في عهده ببناء ثلاث عشرة مستوطنة يهودية في فلسطين لم يأت على ذكرها أحد!
ونظراً لأن هذه الحقيقة التاريخية باتت معروفة الآن فقد أشاع بعض الكتاب الذين يريدون تجيير التاريخ العثماني لمصلحة أردوغان بأن الصهاينة استغلوا فساد (الإدارة المحلية)، «فتسللوا إلى فلسطين وأسسوا جمعيات متعددة للاستيطان مند سنة 1891».
وهكذا يستمر الأتراك في دعم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني سراً والاحتجاج على ممارساته علناً، كمن يقتل القتيل ويسير في جنازته.