هكذا أعلنت الولايات المتحدة عن اتفاقها مع الجانب العراقي على سحبِ كافة القوات الأميركية المقاتلة من العراق بنهايةِ العام الحالي والاكتفاء ببقاءِ بضعةِ مستشارين. تركَ هذا الإعلان البابَ مفتوحاً على مجموعةٍ من التساؤلات كمصيرِ تحالف الإجرام الذي يدَّعي الحرب على داعش، تحديداً أن العراق نقطةَ إمدادٍ رئيسة لهذا التحالف، أو سببَ هذا الإعلان المتزامن مع الانسحاب من أفغانستان، هل حقاً أن الأميركي خائف من بعض الهجمات الصاروخية التي لا تُسمن ولا تغني من جوع أم إن الإستراتيجية الأميركية الجديدة في هذا الشرقِ البائس باتت تنطلق من فكرة أساسية: لماذا نُبقي القوات المقاتلة ما دامت الأهداف تتحقق تلقائياً بأيدي أبناء البلاد نفسها؟
هذه الإستراتيجية قد لا تنطبق على العراق فحسب لكن تتعداها باتجاه لبنان وسورية، لكن ما يجعل التأثيرات المستقبلية لهذا الانسحاب في سورية ضعيفة أن الدولة في سورية لم تنهر ولم تتضعضع بسبب صمود الجيش والشعب معاً، ليصبح السؤال الأهم ليسَ ما يعنيهِ انسحاب القوات الأميركية من العراق بل السؤال: ما مصير العراق بعد انسحاب القوات الأميركية؟
كعادتِها ستترك الولايات المتحدة من ورائِها الخراب والدمار وبضعةَ عملاءٍ جاؤوا على دباباتها ليحملوا بعدها ويحملُّهم البعض لقب «المقاومين»! سيرحل المحتل والبلد الذي مزقتهُ الحرب سيكون أمام اختبارٍ حقيقي لبناء المستقبل، هل ستنجح فعلياً كذبة الديمقراطية بانتشال البلد من أزمتهِ السياسية والاقتصادية والطائفية؟
في التجربة العملية لم تنجَح كل سياسات الاحتواء الطائفي في هذا الشرق البائِس ببناء دولة، الوضع في العراق لا يختلف عن لبنان والفرق الوحيد بأن المحاصصة الطائفية في لبنان لم تعد مسلحة علناً، ومع ذلك فإن احتمالات انفجار الحرب الأهلية من جديد لا تبدو بعيدة. أما في العراق فالمشهد يبدو أكثر قسوة، والمصيبة أن كل الأطراف لا تزال مقتنعة بأن المحاصصة الطائفية المبنية على دستور «بول بريمر» هي الحل لكياناتنا المشرقية، هذه الكذبة لا يبدو أنها عادت تنطلي على أحد إلا زعماء الطوائف الذين يعتاشون من نظام كهذا، والدول التي ترى بالأنظمة الطائفية باباً لنفوذها السياسي وغير السياسي. لكن ما يجعل الوضع في العراق أكثر خطورة هي النزعة القومية التي قد تعجِّل بتقسيم البلد أسرع بكثير من المتوقع، بل هناك من يعتبر بالأساس أن شمال العراق لا ينقصه إلا إعلان دولته المستقلة، وسبب إخفاق استفتاء عام 2017 بتحقيق أهدافه الانفصالية كان غياب التوافق الدولي لا أكثر، اليوم تبدو الفرصة متاحة بتوسيع قاعدة هذه الدولة المسخ بعد فصل الشمال الشرقي لسورية وضمه إلى شمال العراق.
لا يبدو هذا التحليل بعيداً عن الواقع تحديداً وسط تشديد عملاء أميركا في هذا الشمال حملات الاعتراف بإداراتهم الذاتية وتقديم أنفسهم كواجهة ديمقراطية شبيهة بالديمقراطية الإسرائيلية، بمعنى آخر:
قد يكون السيناريو المتاح فعلياً بعد الانسحاب الأميركي هو إدخال العراق في دوامة الحرب، هل يعتقد البعض بأن (داعش) تبخر في الرمال؟ هل هناك من يظن بأن بقايا نُزلاء سجن «بوكا» الذي أقامته الولايات المتحدة بعد الغزو باتوا تنويريين؟ هؤلاء هم ببساطة وقود الحرب القادمة إن لم يكن للجيش العراقي «وحدهُ» كلمة الفصل في الدفاع عن وحدة العراق، لكن ماذا عن لبنان؟
بين تشكيل الحكومة وعدم تشكيلها يبدو أن لبنان دخلَ في نفقٍ مظلم كما هو مرسوم له، وكأن المشكلة أساساً هي بوجود حكومة من عدمها! يوماً ما فشلت الولايات المتحدة بتركيع لبنان عبر حرب تموز في عام 2006 لأن المواجهة كانت عسكرية، اليوم نبدو أمام شكلٍ جديد من هذه المواجهة يستند أساساً إلى إضعاف سورية التي كانت الدرع الوحيدة الحامية للمقاومة اقتصادياً وعسكرياً. ربما لم يكن للولايات المتحدة أن تحقِّق ما حققته لولا السياسات الاقتصادية المتبعة تجاه لبنان، فـ«شبه» العقوبات الأميركية على الحكومة اللبنانية جعلت نواقيسَ الخطر تدق في كل الاتجاهات حتى بأدنى الخدمات، لكنها بالوقت ذاته لم تدفع الطرف المتحالف مع الولايات المتحدة لكي يسأل نفسهُ سؤالاً جوهرياً:
ألستُ بالمركب ذاته مع حزب اللـه وباقي الأحزاب التي أُعاديها؟ هؤلاء لم يفهموا بعد بأن التجربة السورية في العقوبات الاقتصادية لا يمكن تطبيقها في المقاومة لسببٍ بسيط هو أن المناطق التي تضم حلفاء أميركا معزولة، لكن في لبنان الأمر ليس كذلك ومع اقتراب انهيار البلد اقتصادياً مازال هناك من يُكابر، ليصبح السؤال الأهم: هل يستطيع لبنان فعلياً مقاومةَ الحرب الاقتصادية عليهِ؟
بعيداً عن العواطف لنتحدث بموضوعية في الموضوع الأهم أي سلاح النفط كمثال لا أكثر، فالحديث عن وصول ناقلات نفط إيرانية مثلاً لإمداد لبنان ذو تبعات لا يمكن للبنان أن يتحملها، فإن جاءت هذه الناقلات عبر الحكومة اللبنانية ونفذت الولايات المتحدة تهديداتها بالعقوبات الاقتصادية الشاملة عندها سيرتد هذا الأمر على الحكومة ومن طرح الفكرة. وإن جاءت هذه الناقلات بطريقةِ الأمر الواقع من خارج القنوات الرسمية فهو أمر لا يقل خطورة عن ذلك، لأنه عملياً سيكرِّس لدى البعض فكرة تقسيم المقسم وتجزئة المجزَّأ، ماذا لو قررت فرنسا مثلاً إرسال ما يمكن إرسالهُ إلى ميليشيا القوات اللبنانية؟ من قالَ إن لبنان أصغر من أن يُقسَّم، هناك تقسيم معنوي أخطر بكثيرٍ من التقسيمِ بالسواتر.
في سياقٍ متصل لا تبدو الفكرة متعلقة فقط بتشكيل الحكومة من عدمها، لكن حتى بهذا المنحى تبدو الحقيقة تائهة، فهناك من يرى أن المملكة العربية السعودية تريد تفجير الوضع في لبنان لذلك فإن الرئيس المكلف سعد الحريري اعتذر عن التكليف ليُدخل البلد في المجهول، هنا يصبح السؤال المنطقي، ما مصلحة المملكة بتفجير الوضع في لبنان؟ ثم لماذا يغيب وبشكلٍ كامل على ما يسمى منظومة الإعلام المقاوم أي حديثٍ عن الدور القطري – التركي ومصالحهما في لبنان؟ أما حكومة من خارج سياق التوافقات الإقليمية فتبدو مزيداً من إقحام المقاومة في سراديب السياسة وتحميلها مسؤولية إخفاق اقتصادي واجتماعي عمره قرون، فماذا ينتظرنا؟
ببساطة الوضع في لبنان لا يختلف عن الوضع في العراق، إن لم يكن هناك قرار شعبي بالتمرد على المحاصصة الطائفية فالأمور تتجه للأسوأ، فلا الولايات المتحدة أو حلفاؤها سيفوتون هذه الفرصة الذهبية حتى لو وصل الأمر باستقدام الأفغان وغيرهم ليحاربوا المقاومة على الأرض اللبنانية، وبالسياق ذاته على البعض أن يتعظ من هذا السيناريو ليعرف أن الدفاع عن بقاء الدولة في سورية وما قدمهُ الشعب والجيش معاً من صمودٍ وتضحياتٍ لم يكن عبثياً، بل كان العماد الذي سيُبنى عليهِ لقرونٍ قادمة.
ما يجري في العراق ولبنان ليس بالبساطة التي يتعاطى بها البعض وما كان يصلح لمقوماتِ الصمود قبيل عقدٍ يبدو اليوم غير قابلٍ للتطبيق لسبب بسيط هو أن صمام الأمان سورية ليست في أفضل حال، القضية ليست جرس إنذار القضية، ببساطة أننا ولعقودٍ من الزمن كنا نتحدث عن اندحارِ المعتدي وهو في كل مرة يبدل تكتيكاتهُ من دون أن نفكر بتبديل نظرتنا لما يجري؟ فهل تبدأ المراجعات قبل فوات الأوان؟!