في أغلب مناحي حياتنا العلمية والاجتماعية والدينية نسمع من يدّعي المعرفة، وقد يكون هذا الادعاء صحيحاً، ولكن السؤال الأهم: ماذا كانت استجابة العارف لهذه المعرفة التي يتشدق بها؟ فإن سألته عن العبادة والحياة الدنيا والآخرة، يقل لك أعرف! لكن ماذا أفادته هذه المعرفة؟ قد تكون إلى جانب سائق نقول له انتبه لشيء ما، فيقول لك: أعرف، شايف! ولكن الذي يحصل أن الحادث يقع، وأن الشخص يدهس، ويبدأ هذا بالبحث عن المسوغات التي تبرئه، ولكنها تدين الذي كان ضحية! وقد تتحدث أمام أحدهم عن المعاملات، فيقول: أعرف، ويعطيك درساً في أن التعامل بين الناس هو أساس الدين، وسرعان ما تجد هذا الشخص يضرب عرض الحائط بالأخلاق والتعاملات، فيكذب ويغش ويسرق وو.. فماذا قدمت له معرفته هذه من أشياء يمكن أن تقوّم مساره ومسيرته؟
وهل المعرفة هي لمجرد أن تعرف، أم لتتجنب ما يوقعك به سوء الفهم أو عدم المعرفة؟
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة.. أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
في كل لقاء سياسي لمحلل أو لخبير نكتشف أن المحلل يعرف تلافيف دماغ الإدارات كلها الأميركية والأوروبية والروسية، وهو خبير بما يعتمل في ضمير الإدارة السورية، وهو خبير بما يجري في قصور محجوبة عنه لشخصيات عربية، ويقرر ما يدور فيها، وما يخططون له! وهو على دراية بكل سكنة من السكنات! وهنا لا اعتراض على هذه المعرفة، ولكن الاعتراض أن يبيعها للناس، وأن يحلم الناس، وأن يبنوا مستقبلهم كما يقول! والسؤال إن كان المحلل الخارج لتوه من ناد مع أصحابه، والعائد بعده للقاء أصدقائه ومناقشتهم بكل ما تحدث به في هذا اللقاء، ليقول لهم، شوفوا ما أحلاني! إن كان هذا المحلل الذي لا يعرف حتى معنى اسمه كمحلل يعرف كل هذه المعرفة، فما بالنا بالقيادات والإدارات؟! إن كان هذا المحلل يقول من رأسه وليس من خلال إيحاء يعرف كل هذه المعارف، إلا يعرفها من هم أكبر منه؟! إلا تعرفها الإدارات التي يتحدث عنها أو عن خططها؟ أما اهترت الإدارات المتعددة من هذه المعارف وغيّرت خططها؟ وبما أنه يحدث نفسه ولا يسمعه أحد ألم يعرف من هم أكبر منه مكانة هذه المخططات؟ أما كان الأجدى أن يحدث أحد أمرين: أولهما وهو الصواب أن يطلب منه الصمت عن الهذيان، وثانيهما أن نجد على أرض الواقع ما يتغير وفق معرفته المعروضة على الجمهور، وكان من الأجدى أن يعمل بها أصحاب القرار بما أنها معروفة؟!
إذا كان الرضيع فينا، والشاب والمحلل والإنسان العادي بعد لعبة (تركس أو طرنيب) يعرف كل هذه المعارف فمن أين يأتي عنصر المفاجأة؟ كيف يستطيع خصومنا أن يباغتونا ونحن نعرف ما يدور في رؤوسهم وأذهانهم، بل ما يدور في عقول من لم يولد منهم بعد، ولم ينزل إلى هذه الدنيا؟
أليس من الأجدى أن نحدد معارفنا على حقيقتها؟
لقد أصبحنا كقارئي الفلك الذين لا خبرة لهم ولا دراسة، والذين يقولون أي كلام، ويتحلّق الناس حولهم يستمعون إلى آرائهم وتوقعاتهم، ويتناسى حتى من يتندر أن ما يقوله هؤلاء هو سيرة الحياة وسيرورتها، فأمامك طريق، وأمامك رزقة، وهناك وفاة، وهناك فرح! وعندما يحدث شيء من هذا يتنادى الجميع للتهليل لصدق ما قاله المتنبئ! حتى في عالم التحليل والسياسة ومصائر الدول يأتي من يتوقع، ويحلل، ويفسر مناماته، وربما بعد مدة خرج علينا ليقول: لقد توقعت هذا الأمر منذ مدة، أتذكرون؟! وحين يستعيد ما توقعه قد يقول له قائل: لقد كنت على اطلاع وهذا ليس توقعاً! تنتفخ أوداجه ويتظاهر بأنه يستحي أن يقول..!
هذا كان مقبولاً في مسرحية فيروز الرائعة (يعيش) عندما آوى صاحب الدكان الإمبراطور الفار وملهب المهرّب، وحين قاموا بالانقلاب حاول أن يدعي معرفته بالانقلاب، وبأنه شارك في صياغة البيان، لكن الطرافة الكوميدية والمفارقة جعلتا الدورية تأتي لاعتقاله ليسخر الجميع من معرفته واطلاعه وادّعائه..
أليس الأجدى أن تأتي دورية لتضبط كل هؤلاء المدّعين وهم على الشاشات؟ أليس من الأفضل أن تلجم هذه الأفواه والألسنة التي تدّعي المعرفة، وهي بذلك تسيء إلى الإنسان والوطن والرموز؟
نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إن كان الناس والخبراء يعرفون كل هذه المعرفة، فإنه من المفترض أن نعدّ العدّة لمواجهتها والخلاص من مؤامرات نحن نعرف تفاصيلها! أو الخيار الثاني وهو الأكثر منطقية والأكثر قرباً من الحقيقة والتطبيق هو أن يسكت هؤلاء عن الاجترار وكلام الهراء، وأن يدعو الإنسان منا دعواته للخلاص بعيداً عن مناماتهم!!
وخلال هذه السنوات التي كنا نرقب ونراقب، ما من إنسان إلا وصل إلى حد القرف من هذا الاستسهال في المعرفة، وصار على يقين بأن الأمر بيد هي القادرة على الفعل، ما عدا ذلك هراء.. املؤوا الشاشات بأغاني فيروز وأم كلثوم والأناشيد الدينية لو شئتم، وكفوا عن إظهار قبحكم.. املؤوها ما شئتم فما من أحد يتابعها أو يجلس أمامها.