لقد كُتب وقيل الكثير عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي اعترته كثير من التفسيرات السطحية التي لم تتناول الإستراتيجيات الأميركية في العمق وموقف الغرب من الشعوب التي أرسل قواته لغزو بلدانها تحت ذرائع وحجج مختلفة وواهية أحياناً، ولكنّ أغرب ما قيل هو ما أتى على لسان رئيس الأركان البريطاني، الجنرال نيكولاس كارتر، في مقابلة تلفزيونية معه حيث تحدث عن طالبان كأنهم أعادوا صياغة أنفسهم بما يتوافق وميثاق الشرف وحقوق الإنسان والنساء، وليس على العالم سوى أن يتفهم خلفيتهم ومنطلقاتهم وأن يعطيهم الفرصة الأكيدة للتعبير عن أنفسهم ورؤية صيغة الحكم التي سوف يطبقونها والتي قد تثير إعجاب الغرب والشرق على حدٍّ سواء.
اللافت في هذا اللقاء هو الجرأة في تغيير المواقف والتنصل من مفاهيم حملها معه الغرب لغزو أفغانستان منذ عشرين عاماً وطرح مفاهيم جديدة لا تمت إلى المواقف التي عهدناها منهم بصلة ولا تشرح أسباب الغزو لهذا البلد ولا أسباب الانسحاب منه، ولا علاقة الموقف من طالبان بعلاقة موقفهم من الإرهاب في كل زمان ومكان.
الحقيقة الأكيدة في هذا الانسحاب هي أن الغرب لم يقم بغزو أفغانستان من أجل إصلاح الحكم هناك ولا من أجل محاربة الإرهاب وإنما من أجل مصالحه الخاصة في السيطرة على ثروات هذا البلد وخاصة الليثيوم والذهب، والتموضع الجغرافي في بلد يشارك الصين وإيران حدوداً طويلة كما يشارك جمهوريات آسيا الوسطى حدوداً، وخاصة أن هذه الجمهوريات تشارك روسيا حدوداً طويلة وتشكل مصدر قلق لروسيا من تسرّب التطرف الإرهابي إلى داخل أراضيها؛ إذ ليس من المقبول أبداً أن يعبّر رئيس الولايات المتحدة جو بايدن وكل أركان الحكم هناك عن دهشتهم من أن النظام في أفغانستان انهار خلال أحد عشر يوماً وأن أحداً منهم لم يكن يتوقع هذا الانهيار بعد عشرين عاماً من وجود القوات العسكرية الأميركية والمخابرات الأميركية في هذا البلد، إلا إذا كانوا هناك يتابعون أهدافاً أخرى لا علاقة لها بالشعب الأفغاني أو مصلحة هذا الشعب أو مصيره المستقبلي وهذا هو الأرجح.
أما الانسحاب فهو لم يكن مذلاً للقوات الأميركية، كما ادّعى البعض، لأنه مخطط ومبرمج في الطريقة والتوقيت، ولأهداف لها علاقة بإرباك من تعتبرهم الإدارة الأميركية «الخصوم الجدد» وهم الصين وروسيا وإيران، ولا علاقة له بنجاح أو إخفاق ما أرادت الولايات المتحدة تحقيقه في أفغانستان، ولكنّ الانسحاب مذل ومهين لعملاء الولايات المتحدة من الأفغان أو غيرهم، وهو يذكّر بالانسحاب الأميركي من فيتنام وكيف ألقت الطائرة الأميركية بالسلّم الذي يعتليه الفيتناميون المتواطئون معهم والطامعون بالهرب على طائراتهم بعيداً عن الأرض التي خانوها لمصلحة أعداء بلدهم، ولعلّ هذا الدرس هو الدرس الأهم المستفاد من هذا الانسحاب، وهو الدرس المستخلص من تجارب الولايات المتحدة مع الشعوب التي حاولت السيطرة عليها واستخدمت بعض أبنائها لفعل ذلك موهمةً إياهم بأنهم أصدقاء ومحظيون، إلى أن لفظتهم عند أول مفترق طرق.
هذا الموضوع هو في غاية الأهمية اليوم لأكثر من سبب ولكن السبب الأساس هو أن الولايات المتحدة والغرب عموماً قد تبنوا إستراتيجية استخدام أبناء البلدان التي يطمعون بخيراتها لتحقيق أهدافهم وحكم هذه الشعوب من خلال ثلة من المتواطئين معهم، إما لمصالح شخصية أو لقناعات وهمية ناتجة عن ضيق أفق وضعف انتماء وعدم قراءة دروس التاريخ قراءة معمقة واستخلاص العبر والحكم منها؛ فأعداؤنا ليسوا بالقوة التي يتوهم البعض، إلا لأنهم ينفذون إلى صفوفنا من خلال بعض المخترقين في الداخل والخارج، وهذا ينطبق على التجارب التي عايشناها وقرأناها من فيتنام إلى شاه إيران إلى السادات إلى أفغانستان وإلى عدد آخر من الدول التي تشهد اليوم صراعاً عميقاً بين المؤمنين بأوطانهم والعاملين فعلاً على استقلال وسيادة وكرامة هذه البلدان، وبين بعض من يتبوؤون المناصب الرفيعة في هذه البلدان ولكنهم يعملون وبكل قناعة وإخلاص لمصلحة الأعداء وضد مصالح بلدانهم، وهؤلاء يشكلون اليوم المشكلة الأكبر للشعوب الطامحة إلى الاستقلال الحقيقي واستقلال القرار والإرادة.
الانسحاب الأميركي من أفغانستان وردود الأفعال الأميركية والبريطانية على وجه الخصوص تبرهن بما لا يقبل الشك أن الغرب لا مشكلة لديه في الإرهاب مادام هذا الإرهاب يقع على أرض أخرى ويلقي بآثامه على شعب آخر بنسائه ورجاله وأطفاله وتعليمه وصحته؛ إذ أصبح من الواضح ومما لا يقبل مجالاً للشك أن القوى الغربية لا ترى شعوبنا بالمنظار نفسه الذي ترى شعوبها به، وأن كل ما يرونه في بلداننا هو ما نمتلك من ثروات ومواقع جغرافية يمكن أن تصب في مصلحة إثرائهم وإضافة عناصر قوة لإمبراطورياتهم.
ومن هذا المنظور أقدّر تقديراً عالياً ما ورد في إستراتيجية الأمن القومي الروسي وأعتقد أنها تنطبق على كل بلداننا؛ إذ ورد في هذه الإستراتيجية: «إدراج حماية القيم الروحية والأخلاقية والتقانة والذاكرة التاريخية الروسية على قائمة الأولويات القومية بهدف إزالة المخاطر المتعلقة بتشويه التاريخ وتقويض القواعد الأخلاقية الأساسية وفرض قيم مخالفة لها من الخارج»، وقد أطلقت هذه الإستراتيجية على الأنشطة العدائية ليس محاولات للإطاحة بالسلطة فقط وإنما أيضاً فرض «قيم ومثل غربية» وهذا هو بيت القصيد.
فإذا نظرنا إلى ما فعله الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال الغربي لليبيا والحرب الإرهابية الدائرة على سورية واليمن نستخلص بما لا يقبل الشك أن هذا الاحتلال والعدوان والاستهداف لا يهدف فقط إلى تغيير أنظمة حكم، كما يدّعون، وإنما يهدف إلى تحقيق انزياح قيمي وأخلاقي وعرفي تصبح هذه البلدان كنتيجة له تابعة للغرب ليس في سياساتها فقط وإنما في مفاهيمها وقيمها ومعارفها على حساب الإرث الحضاري المتوارث لهذه البلدان وعاداتها وتقاليدها وكلّ ما نشأت عليه أجيالها من قيم وآداب وسلوك، وهنا تلعب الآلة الإعلامية دوراً جوهرياً في تشويش الشعوب وضرب عوامل ثقتها بنفسها وبتاريخها وأصالتها والآفاق التي يمكن أن تحققها إذا ما حافظت على استقلالها ونمط عيشها بعيداً عن التبعية والارتهان لإرادة الآخر والسعي لتكون نسخة عنه وأداة يتحكم فيها عن بُعد.
الانسحابات الأميركية اليوم لا تعني أنهم بالفعل انسحبوا من العبث بشؤون البلاد ولكنها تعني التحكم عن بُعد وبتكلفة أقل لجنودهم وميزانياتهم.
فهل نتوقف ملياً عند قراءة التاريخ الماضي والحاضر وفهمه على حقيقته بعيداً عن آلاتهم الإعلامية وأبواق المتواطئين معهم في الداخل والخارج كي يكون مستقبل أوطاننا من صنع أيدينا فقط ومن صنع من يعشق هذه الأوطان ومن يؤمن بها؟