فرنسا في غياهب اللاموقف.. هل يلتقط «أولاد السياسة» تحولات الحرب على سورية؟
| فراس عزيز ديب
أسبوع اللقاءات الثنائية والتصريحات الإيجابية، فوزير الدفاع العماد علي أيوب زارَ الأردن والتقى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردني اللواء الركن يوسف الحنيطي، هل بدأَ التنفيذ الفعلي لمرحلةِ ما بعد طي ملف إرهابيي درعا؟ في الوقت ذاته كان لافتاً لقاء وزير الخارجية فيصل المقداد بوزير الخارجية المصري سامح شكري في نيويورك، هل يكون هذا اللقاء انعكاساً للقاءات والتعاون الذي لم ينقطع بين البلدين في المجال الأمني والعسكري؟ هل سلَّمَت الدبلوماسية المصرية أخيراً برغبة الجيش والاستخبارات المصرية بضرورة الانفتاح على سورية؟
أمَّا إقليمياً فبدا لافتاً الكلمة التي ألقاها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز على منبر الأمم المتحدة وتحديداً حديثه عن مد اليد للتعاون مع إيران، وإن كان الجواب الإيراني غير الدبلوماسي لم يكن في السياق ذاته، وبدا يغرّدُ بعيداً تحديداً عندما يعقّب أحد قادة الحرس الثوري على الانفتاح السعودي بوصفهِ استجداء لإيران لإخراج السعودية من المأزق اليمني ليستطردَ قائلاً: «أي مكان انتشر فيه عبق الثورة الإسلامية الإيرانية تغيَّر وتطور، خير مثالٍ على ذلك هو اليمن»، هل أن هذهِ المقاربة دقيقة؟ ما الفائدة من استعادة الحديث عن تصدير الثورات في هذا الوقت؟
لكن وسط هذا الزخم الشرق أوسطي، بدا اللقاء الذي جمعَ رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أشبه بلقاءِ الخاسرين. في المؤتمر الصحفي بدا نجيب ميقاتي وهو يتحدث عن الدور المنتظر لفرنسا في مساعدةِ لبنان وكأنه يتحدث عن دولة تمسك خيوط اللعبة الدولية على طرفي خط الاستواء، وفي الحقيقة هي غير قادرة على الإمساك حتى بخيوط سترات المحتجين الصفراء. مشكلة كبيرة عندما تخلو عملية رسم السياسات الخارجية للدول من أي استقراء للواقع، نتفهم عملياً حاجة لبنان إلى المساعدة، لكن هل حقاً إن ما قاله ميقاتي يمكن أن يتحقق عن طريق فرنسا الماكرونية؟
تعاطى رئيس الوزراء اللبناني مع ماكرون وكأنه زعيم دولة عظمى، على حين يكفي أن تجلس مع أي فرنسي تجاوز السبعين من عمرهِ ليقول لك معبراً عن الاستياء من الحالة المزرية التي وصلت لها السياسة الفرنسية: «هذا ما يحدث عندما يحكمنا الأولاد»، هل باتت فرنسا فعلياً نمرٌ من ورق؟
بما أن البعض يحب الاستشهاد بمقولات منسوبة أو موثقة لمؤسس الجمهورية الخامسة والرئيس الأسبق شارل ديغول، دعونا نعد إلى العام 1966 حيث وقف ديغول على سجادة الشيوعيين الحمراء في موسكو ليخاطب الأمين العام للناتو بحضورِ ليود بريجينيف: «من السعادةِ لنا أن تساعدونا على مقاومة الضغوط الأميركية لكن من الجميل أيضاً أن تكون الولايات المتحدة إلى جانبنا لمقاومة الضغوط الروسية».
هذه العبارة تلخِّص ببساطة حال الضياع الذي تعيشهُ فرنسا على المستوى الدبلوماسي، هل أرادَ أن يعبر عن الوهن الذي تعيشهُ المنطقة الأوروبية بعد خروجها من الحرب وضياعها بين مشروعين بدأا للتو صراعَ الحرب الباردة؟ هل كان يقدم أوراق اعتماده للسوفييت بعدَ أن كسرَ الحصار الأميركي على جمهورية الصين بنظامها الاشتراكي الفتي يومها وزارها رغم رفض الولايات المتحدة لتلك الزيارة، تحديداً إن المرحلة ذاتها حملت الكثير من التهديدات بالخروج من ناتو؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي ستبقى غامضة بغموض المصير الذي لاقاهُ من أنهى حرب الجزائر ووحَّد فرنسا من جديد، قبل أن تطيحَ بهِ مظاهرات طلابية على غِرار ربيع الدم العربي!
في عصرنا الحالي تبدو المشكلة أعقدَ من ذلك، تراه في تلعثمِ الشخصيات السياسية التي تبدو كمشاريعَ نوابٍ أو وزراء عندما تسألهم: لماذا تكرهون روسيا؟ بعيداً عن الجواب الببغائي المتعلق بالديمقراطية وديكتاتورية النظام لكنك ستشاهد ضياعاً من نوعٍ آخر، هم لم يحسموا أمرهم حتى الآن هل أن صراعهم مع الروسي هو صراع كنَسي مبطَّن بخلفية مذهبية يتجاهلون البوح بهِ لاعتبارات «بريستيج العلمانية»؟ هل هددَ الروس يوماً المصالح الفرنسية بالقدرِ الذي هددته الولايات المتحدة؟ ختاماً، هل تكون عقدة ناتو كإرث يجمع المنتصرين هو السبب الوحيد الذي يرفع التقارب الأوروبي الأميركي على حساب نظيره الروسي؟
يوماً ما وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليقول إن ناتو بات ميتاً، لأنه من مخلفاتِ الحرب الباردة. سخرَ كثر يومها من هذا الكلام لكن هذه الفرضية باتت عملياً قائمة وبدايتها لم تكن بتهرب دول ناتو من دعم تركيا عندما أسقطت الدفاعات السورية طائرة مقاتلة اخترقت الأجواء السورية، ولا حتى بترك فرنسا فرانسوا هولاند تغرق وحيدة في صحراء مالي بعدَ أن عزفت كل دول ناتو عن الذهاب معها في مهمة باطنها سرقة خيرات الرمال الذهبية وظاهرها الحرب على الإرهاب، علماً أن قادة تنظيم القاعدة في المغرب العربي لم يكونوا في مالي بل كانوا يسرحون ويمرحون في ليبيا عشيةَ زيارة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي لطرابلس الغرب للاحتفال بـ«سقوط» معمر القذافي. اليوم تأتي قضية الولايات المتحدة لإلغاء صفقة الغواصات النووية التي تقدر قيمتها بأكثر من خمسين مليار دولار لتعيد التساؤل: هل حقاً مات الناتو؟
السؤال الذي لا إجابةَ عنه حتى الآن، ما حاجة أستراليا بالأساس لهذهِ الصفقة؟ ليست في حالةِ حرب ولا تحدها دول عظمى قادرة أن تزعزع أمنها، حتى ما يُحكى عن مواجهة النفوذ الصيني في المحيط تبدو نكتة سمجة، منذ متى كان الصينيون يتعاطون بلغةِ السلاح؟ السياق ذاته عندما يسمع المواطن الفرنسي بقيمةِ الصفقة يتنهد وكأنه يقول أتمنى ألا تعوِّض الحكومة أموال الصفقة الضائعة من الضرائب، لكن واقعياً لا تبدو المشكلة مشكلة اقتصادية تحديداً إن هذا المبلغ قد يأتي من عائداتٍ غير إنتاجية كالسياحة في الدرجة الأولى، لكن المشكلة أن الهيبةَ الفرنسية قد ضُربت، وسياسة «حكم الأولاد» لهذا البلد لا يبدو أنها ستنتهي كسلسلة في ظل ضمور الطبقة السياسية التي تتمتع بالكاريزما والخوف من وصول اليمين المتطرف، فماذا ينتظرنا؟
تبدو فكرة إعادة تشكيل التحالفات نتيجة منطقية لمرحلة ما بعد الحروب العالمية، ولعلَّ الحرب على سورية أحد تجلياتها. اليوم لا يبدو أن الوضع سيخرج عن هذا السياق، نحن فعلياً أمام مخاضٍ ما ينتظر الاستثمار في اللحظة، وهل هناك من لحظةٍ أدق من انتهاء الحرب على سورية؟ دعوا «الأولاد» يسألوا الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي فهو الوحيد القادر على إجابتكم، لولا لقطة بقاء الرئيس بشار الأسد وحيداً عندما أدارَ ظهره لكل من ينتظر منه مصافحة إيهود أولمرت على منصة الاحتفال باليوم الوطني لفرنسا، هل كان أحد سيتذكر شيئاً اسمه «قمة ساركوزي المتوسطية»؟