يبدو أن المعادلات والتوازنات السياسية الدولية التي بدأت ملامحها بالظهور تدريجياً، قد فتحت الباب أمام فوضى من تصريحات باتت متكررة هذه الأيام ويشطح أصحابها أحياناً في خيالاتهم حول قدراتهم وإمكاناتهم ودورهم في إعادة رسم الخريطة السياسية العالمية، لكن فوضى هذه التصريحات لا يجب أن يأخذَ منا الحِّيزَ الأكبر، تحديداً عندما يكون العالم في حراكٍ لإنهاءِ النقاطِ المشتعلة في هذا الشرقِ البائس.
البعض ربما استوعبَ هذه الفكرة وبدأ ينحو تدريجياً بهذا الاتجاه تحديداً بما يتعلق بالعمق العربي للجمهورية العربية السورية وهو أمرٌ رحّبت بهِ القيادة السورية مراراً وتكراراً، والبعض الآخر ولعلَّ هذا البعض يمكننا اختصارهُ بالنظام التركي، مازال يعتقد أن بإمكانهِ إعادة تدويرِ الزوايا تحديداً قبل اللقاء الذي جمعَ الرئيس فلاديمير بوتين برجب طيب أردوغان.
مع انتهاءِ الاجتماع الثنائي لم يجد الصحفيون والمراسلون وسيلة لفهمِ ما جرى في الاجتماع إلا الاستعانةَ بخبراءِ تحليلِ الوجوه، ربما أن أذكى خطوة قام بها النظام التركي هي طلبهُ إلغاء المؤتمر الصحفي، لكن هذا الإلغاء عملياً وإن كان حمّالَ أوجهٍ لمصير هذا الاجتماع إلا أننا نستطيع الاستدلال على نتائجهِ من خلالِ بعض المعطيات:
أولاً: اعتاد رجب طيب أردوغان على تجييرِ أي حدثٍ في هذا العالم للمكان الذي يخدم الدعاية الرسمية التركية، تحديداً أحاديث القوة والنفوذ والإمساك بالملفات الكبرى، دعمتهُ لتحقيقِ هذا الأمر ماكينة إعلامية تركية وناطقة بالعربية، لنعترف بأنهُ نجح إلى حدٍّ بعيد عبرَ هذا الأسلوب بتكريس هذه الهالة، فالذي ادعى يوماً بأن الأتراك ساعدوا الرسول عليه الصلاة والسلام في غزواتهِ، ثم ادعى بأن الضغوط التركية هي من أفضت لوقف الإسرائيليين الهجوم على غزة، تراهُ اليوم يستعيد الفكرة نفسها لكن بطريقة استباقية، خلال الأسابيع القليلة الماضية كرّرَ أردوغان عبارة «على الأميركيين الخروج من سورية كما خرجوا من أفغانستان» لمراتٍ كثيرة، هذا الأسلوب يوحي بأن أردوغان قد تبلغَ فعلياً بحتمية هذا الرحيل، هو يريد أن يخرج ليقول لشعبه أن الضغوط التركية أثمرت رحيل الأميركي عن سورية والكف عن حماية إرهابيي حزب العمال الكردستاني، وطبعاً هناك قطيع عربي وتركي سيصفق له.
ثانياً: لم يعد مجال المناورة التركي كبيراً، فالنظام التركي يبدو جاهزاً لكل ما يعيد علاقاتهِ بالدول العربية تحديداً مصر والإمارات العربية المتحدة، في الوقت ذاته هو خسر الرهان في المغرب وتونس وتقريباً ليبيا، هذا على المستوى الإقليمي. أما على المستوى الدولي فهو يدرك بأن لعبة التحالفات الجديدة لا تسير في صالحه فالأميركي مثلاً لا وقتَ لديه لسماع بكائياتهِ على الضمِّ الروسي للقرم، بالوقت ذاته فإن الاتفاق الفرنسي اليوناني الأخير كان أشبهَ بالصفعة، تحديداً أن اليونان محسوبة تاريخياً من حصة الروس لاعتبارات كثيرة، هذه الخريطة الجديدة ستُجبر أردوغان على التراجع هنا أو هناك فهل يكون الشمال السوري هو نقطة الالتقاء تلك؟
كل الدلائل تشير إلى أن توقيتَ المعركة باتَ قابَ قوسينِ أو أدنى، لكن السؤال هنا لم يعد متى تبدأ هذه المعركة بل بآلية سيرها وبمعنى آخر هل سينسحب التركي ليخلي الساحة للجيش العربي السوري؟ أم إنه سيتعاطى كما المعركة السابقة وسيضع نفسه طرفاً؟ هل سيستمر في استثمار ورقة اللاجئين للضغطِ على الأوروبيين؟ أم إنه سيتعاطى بواقعية بالكف عن الاستثمار بهذه الورقة وتضخيمها، تحديداً لأن الاتفاق اليوناني الفرنسي الأخير تبدو أحد أهدافه هي الوقوف بوجهِ الاستثمار التركي بورقةِ اللاجئين، والأهم هل سيكون قادة التنظيمات الإرهابية بأمان في الداخل التركي كمعارضين سياسيين أبرياء بعدَ كل ما ارتكبوه، أم سيتركهم النظام ليلاقوا مصيرهم؟ تحديداً لأن سياسة الاغتيالات والتصفية القائمة بين ضباع التنظيمات الإرهابية هناك يبدو وكأن للتركي مصلحة بها.
للإجابةِ عن هذه التساؤلات دعونا نتذكر بأن المعركة السابقة والتي أفضت إلى تحريرِ أكثر من نصف مساحةِ إدلب كانت قد تلت اجتماعاً عُقد في روسيا بين رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك ورئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان، يومها لم يفشَل الاجتماع كما بدا للبعض، بل كان هناك الكثير من التفاهمات لكن ما جرى أن التركي انقلب عليها، وقتها حُكي عن ضغوطات تعرض لها من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والتي كانت ترى بسياسةِ المحافظة على قادة ما يسمى «هيئة تحرير الشام» وتلميعهم لإعادة دمجهم في الحل السياسي كوديعةٍ تركية تفرمل ما يسمونه النظام السوري في تطلعاته المستقبلية هي نقطة تلاقٍ مع النظام التركي.
اليوم لا يبدو بأن الوضعَ سيختلف كثيراً، من يريد أن يفاوض السوري من باب الجار الذي لديهِ توجسات هنا أو هناك من نتائج هذه المعركة، فإن سورية لا تغلق باب الحوار طالما أن الطرف الآخر يعي حدوده، بل إن سورية منفتحة على كل ما يضمن عودة اللاجئين ضمن الأراضي التركية أو تحرير المدنيين من براثن المجموعات الإرهابية داخل الأراضي السورية بأقل الأثمان، عدا عن ذلك فإن إدلب هي أرض سورية وستعود سورية، ومن يريد أن يضعَ نفسه طرفاً ليتحمل العواقب، لأن تحرير إدلب يعني تكريس فكرة انتهاء المعركة الأمنية في سورية تماماً، كما سيكون تحرير حقول النفط تكريساً لفكرة انتهاء المعركة الاقتصادية الأقذر على سورية، كلاهما فيما يبدو يسيران في خطينِ متوازيين، وحدهُ من لا يريد أن يفهم المتغيرات من حولهِ من سيدفع الثمن، ألم نقل لكم قبل أسبوعين: ما قبل قمة الرئيسين الأسد – بوتين ليس كما بعدها.