تراجعت في غضون الأسبوع الأخير احتمالات قيام أنقرة بشن عملية عسكرية سواء أكانت في ريف حلب أم في مناطق شرق الفرات على الرغم من التصريحات التي راح يطلقها المسؤولون الأتراك وجميعها تؤكد بقاء ذلك الفعل أساسيا في السياسات التركية الراهنة، وفي الذروة منها تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قال في أعقاب لقائه بنظيره الأميركي جو بايدن على هامش قمة العشرين التي انعقدت في روما أواخر الشهر المنصرم: «إن تغيرات كبيرة ستطرأ في شمال سورية، وإن الولايات المتحدة لن تواصل دعمها لوحدات الحماية الكردية بالشكل الذي كانت عليه من قبل»، وعندما سُئل هذا الأخير عن التحضيرات العسكرية التركية التي تسهب تقارير وكالات الأنباء في عرضها، أجاب باقتضاب «ستتم عندما يجب القيام بها، ولا يمكن التراجع عن ذلك».
مرد ذلك التراجع يعود إلى معطيين اثنين، أولهما هو الخلاف الروسي التركي الحاصل في قمة سوتشي 29 أيلول الماضي، والذي يمكن تلمس مدى العمق الذي وصل إليه عبر السخونة الحاصلة في ملف إدلب ومحيطها، والتي تزايدت درجات الحرارة التي سجلتها ما بعد الإعلان عن انتهاء أعمالها بدرجة لافتة وهي تفوق تلك المسجلة قبلها، حتى الإعلان الذي صدر عن وزير الخارجية الكازخستاني مختار تيلوبيردي يوم الخميس الماضي، والذي أعلن فيه عن احتمالية أن تستضيف بلاده جولة جديدة من «أستانا» منتصف شهر كانون الأول القادم، يمثل مؤشراً آخر لا يقل أهمية عن المؤشر الأول في رصد الخلاف الروسي التركي الحاصل تجاه الملف السوري بشكل عام، فموسكو التي طلبت عقد تلك الجولة، وفق المصدر السابق عينه، لا تبدي استعدادا لوقوع تطورات عسكرية جديدة يمكن لها أن تؤدي إلى تغير خرائط توزع القوى القائم حالياً وفق ما صرح به مصدر دبلوماسي روسي قبل أيام، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى تنسيق المواقف والأولويات، ووضع رؤى مشتركة للتحرك خلال المرحلة المقبلة، وثانيهما هو العلاقة الأميركية التركية المتدهورة لأسباب عدة، والمؤكد هو أن لقاء روما الأخير الحاصل بين رئيسي البلدين قد زاد من عديد الافتراقات القائمة بين الطرفين، فرجب طيب أردوغان يبدو مدركا جيداً لحقيقتين حاسمتين في تلك العلاقة، أولاهما هزالة الرابط الأطلسي الجامع بين الطرفين منذ نحو سبعة عقود بعدما تأكد تراجع مكانة الحلف في السياسات الإستراتيجية التي تعتمدها واشنطن منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، والأمر سوف يزداد تأكيده زمن جو بايدن راهنا، الأمر الذي يرصده الإعلان عن تأسيس التحالف الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا «أوكوس» شهر أيلول الماضي، وثانيتهما هو «الكيمياء» المفقودة على المستوى الشخصي بينه وبين الرئيس الأميركي الحالي، بعكس ما كان الحال عليه زمن الرئيس السابق، وللأمر اعتباراته المهمة في بناء السياسات التركية في عهد أردوغان الذي لطالما اعتمد بدرجة خطرة على «الشخصنة» في بناء تحالفاته بعيداً عن عوامل أخرى كان يجب أن تكون أشد أهمية منها، من نوع التلاقي في المصالح والأهداف، أو في الرؤى والأفكار، ولربما يكون في ذلك الاعتماد، الذي تثاقل بدرجة كبيرة، مقتلاً لنظامه برمته.
في محاولة رصد الدوافع الكامنة وراء التوترات الحاصلة في مناطق الشمال الغربي والشرقي من البلاد قبل عدة أشهر يمكن القول إن تلك الدوافع تتأتى من عدم توافق القوى الفاعلة في تلك المناطق على قسمة النفوذ، فواشنطن التي تشير كل سلوكياتها، بعيداً عن التصريحات التي يطلقها مسؤولوها، تبدو غير متمسكة بالبقاء في سورية، وتلك لحظة ينتظرها الروس بل يعملون على تقريبها بكل ما أوتوا من قوة، والفعل، الذي نقصد به هنا الانسحاب الأميركي المفترض، سيكون، فيما لو حدث، كنتاج لتنسيق أميركي روسي ما انفكت المؤشرات ترصد خطه البياني المتصاعد تدريجيا، وما تخشاه أنقرة هنا هو أن تكون تلك التلاقيات الروسية الأميركية في سورية على حساب المصالح التركية، لذلك اختارت الأولى سبيل التصعيد كعامل يعوق تلك التلاقيات فيما إذا اكتملت، أو كعامل يحسب له حساب فيما لو كانت تلك التلاقيات قيد التبلور.
من الناحية العملية فإن غياب المظلتين الروسية والأميركية أمر يشكل مانعا أكيدا لأي عمل عسكري قد تفكر أنقرة بالقيام به في سورية، فيما المحفزات التي تجعل من هذي الأخيرة تتخلى عن تينك المظلتين تبدو ضعيفة، وهي لا تتعدى حسابات انتخابية يبدو الوقت حتى الآن مبكراً للخوض فيها، وإن تعدت ما سبق فأقصى ما تصل إليه هو محاولة شد العصب في التحالف الذي يقيمه حزب «العدالة والتنمية» مع «الحركة القومية» حيث جمهور الاثنين مغرم بالقضاء على «أحلام الكرد» التي تهدد «الأمن القومي التركي»، وعليه فإنه من الممكن القول الآن إن العملية العسكرية التي تهدد أنقرة بإطلاقها قبل حين هي في حكم المؤجلة، وما يبرر تتالي تلك التصريحات التي ستظل مستمرة لفترة طويلة كما يبدو، هو محاولة إبقاء التهديد بالعمل العسكري قائماً بانتظار أن تتغير المعطيات، لعل التغير يأتي برياح أخرى من النوع المساعد للشراع التركي، وإلى أن يحدث ذلك، على الرغم من استبعاد حدوثه إذ أثبتت الأشهر العشرة التي قضاها جو بايدن في السلطة أن أنقرة ليس من حقها أن تحلم بالاستقرار طالما بقي هو على رأس هرم هذي الأخيرة في بلاده، نقول إلى أن يحدث ذلك ستبقى التهديدات التركية في سياقاتها الراهنة دون تعديلات تذكر.