ليس من السهل أبداً على أي كاتب، أو محلل، أو قارئ لتطورات الأحداث المتسارعة تجاه سورية أن يعيد بناء خطابه تجاه الرأي العام السوري خاصة، والعربي عامة، في ضوء زيارة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد إلى دمشق، ولقائه الرئيس بشار الأسد، فالمطلوب هنا ليس المبالغة والتضخيم، أو الحديث للناس بلغة عاطفية لم تعد تقنع أحداً، إنما المطلوب تناول الأمر من باب الواقع، وتحليله، والبحث عن المصالح المشتركة بين دمشق وأبو ظبي من جهة، وبين دمشق ومحيطها العربي من ناحية أخرى، ذلك أن هذه النقلة السريعة في التطورات لم تأتِ من فراغ، ولم تأتِ منةً من أحد، ولذلك علينا إعادة كتابة الحقائق وفق تسلسل منطقي وواقعي، وليس عاطفياً، لأن الشرح العاطفي للأحداث لم يعد مقنعاً لأحد.
ضمن هذا الإطار لا يمكن أن ننكر أن الحرب الفاشية على سورية شارك فيها للأسف العديد من الأنظمة العربية، وكانوا في غرف عمليات مشتركة مع واشنطن تقود المسلحين، والإرهابيين، وتمولهم وتزودهم بالسلاح، وبالدعم الاستخباري والإعلامي والسياسي، وهذه القضية يعرفها الجميع، وقد واجهها السوريون بقوة وصلابة، حتى انكشاف هذا المشروع القذر. والحقيقة أن الوهم الذي وقعت فيه الكثير من الأنظمة العربية هو أن النظام السياسي في سورية سيسقط خلال أشهر عديدة من بدء ما سمي الحراك المنظم والممنهج، وأن سورية ليست استثناء من تونس وليبيا، وأن تأثير الدومينو سيحصل فيها نظراً لأن حجم الدعم المالي والتآمر عليها كان كبيراً وضخماً ومقنعاً لمن تورط في العمل على إسقاط سورية ودورها الداعم للمقاومة، والمواجهة للمشروع الصهيوني.
ما حصل أن سورية صمدت شعباً وجيشاً وقائداً، وأن المشتركين في المؤامرة عليها لم يدركوا أنهم وضعونا أمام خيار واحد لا غير، وهو إما أن ندافع عن سورية، ونضحي من أجلها، أو أنها ستزول من الخريطة، وتُفتت كما كان مخططاً لها، ولذلك فإن قدرة الشعب السوري، والجيش البطل على تقديم التضحيات الهائلة والصبر الطويل، وتحمل ما لا يحتمل، والإدارة الذكية للحرب بنفس استراتيجي لعب الدور الأهم في انقلاب الموازين تدريجياً، وانكشاف الصورة الحقيقية لهذه الحرب، وأهدافها بعيداً عن الشعارات المزيفة التي حملتها لتضليل الناس في البداية، من هنا بدأت الانقسامات تظهر في معسكر الخصوم، وبانت افتراقات واضحة بين الأطراف التي اشتركت جميعها في التآمر على سورية، كما ظهرت مستجدات عديدة نشير إلى أهمها:
– بروز دور التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي كانت تحتضنه قطر وتركيا كبديل محتمل، وهو ما ترفضه دول كالإمارات وإلى حدٍّ ما السعودية اللتان كان يتم العمل على ضربهما من الداخل عبر العناوين نفسها التي استخدمت ضد سورية.
– إدراك وتلمس بعض الأنظمة العربية أن هناك مشروعاً عثمانياً جديداً يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدعم مالي قطري يهدف لضرب دول عربية مركزية هي سورية والعراق ومصر، بهدف التوسع على حساب الأمن القومي العربي، وهو ما ظهر بوضوح في السياسة التركية تجاه سورية والعراق، واحتلال جزء من أراضي البلدين.
إن سقوط سورية لو حصل فستكون له انعكاسات هائلة على أمن الخليج، وسيؤدي لاستخدام التنظيمات التكفيرية نفسها ضد دول الخليج، فلولا محاربة السوريين والعراقيين واللبنانيين لهذه التنظيمات والقضاء عليها لكانت قد انتقلت بفكرها وممارستها الوحشية باتجاه الخليج حكماً.
الأهم أن ابتعاد الدول العربية عن سورية، وانسياقها خلف السياسات الأميركية، لم يؤد إلا إلى إضعاف دور هذه الدول السياسي، وتهديد أمنها القومي، ذلك أن سورية نقطة توازن أساسية إقليمية ودولية، وخسارتها، ومحاولات عزلها، أدت إلى عزل الدول الأخرى عن التأثير في الأحداث، وأبعدتها عن أن تكون قوى فاعلة إيجابية لإيجاد الحلول والمخارج بدلاً من صب الزيت على النار.
الحرب على سورية ولدت نظاماً دولياً متعدد الأقطاب باعتراف رئيس أركان الجيوش الأميركية مارك ميلي قبل أيام في منتدى «آسبن» للأمن، وبالتالي نحن نتحدث عن قوى صاعدة عالمياً مثل روسيا والصين، وإقليمياً مثل إيران، وسورية هنا هي نقطة الالتقاء وتستطيع أن تلعب دوراً إقليمياً ودولياً وعربياً، يساعد في إيجاد الحلول للكثير من قضايا المنطقة العربية وعلاقاتها بجيرانها، ومن دون الدور السوري ستبقى المنطقة تعاني كثيراً من المشاكل، وبقدر ما يريد الآخرون مساعدة سورية، فهي قادرة على مساعدتهم.
ويمكن تعداد الكثير من العوامل الأخرى التي لعبت دوراً في التغيرات الحاصلة، وانقلاب المشهد، ومنها مثلاً أن دول الخليج لم تكن على خط واحد تجاه الحرب على سورية، فالإمارات العربية المتحدة منذ عام 2013 لم تتوقف عن التواصل سراً مع دمشق، لا بل كانت تلعب دوراً مهماً في هذا الجانب ستكشفه الأيام ليتوج كل ذلك بزيارة الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية لدمشق أول من أمس، وسلطنة عُمان لم تغلق سفارتها، وظلت تفتح قنوات التواصل مع دمشق، وأما السعودية فقد أدركت أيضاً أن مشروع إسقاط سورية سقط وانتهى، وأن الاستمرار بسياسات فشلت لا طائل منه، ولهذا تواصلت سراً مع دمشق منذ وصول الأمير محمد بن سلمان لمنصب ولي العهد، كما أن موسكو لعبت دوراً في فتح قنوات تواصل بين البلدين، وما يلاحظ في وسائل الإعلام المدعومة سعودياً أن اللغة واللهجة قد تغيرت تجاه سورية، وأعتقد أن تأخر الرياض له أسبابه الخاصة التي تحتاج المزيد من الوقت.
أما قطر فإنها ظلت تحتضن تيارات الإخوان، وتستخدم بعض أدوات السفه الإعلامية في بعض الأحيان، لكنها غيرت مصطلحاتها الإعلامية، والسياسية بنسبة كبيرة وستسير ضمن الركب عندما ينطلق.
الآن: يبقى السؤال لدى الرأي العام السوري، هل يمكن لنا أن نطمئن للمستقبل تجاه العرب، وغيرهم؟
جوابي: إنه لا يمكن العيش على الماضي فقط، على الرغم من أن هذا الماضي لابد من أن نأخذ منه دروساً مستخلصة تتركز بشكل أساسي على تقوية الداخل السوري، ومعالجة نقاط الضعف التي ظهرت خلال الحرب علينا، وتعزيز نقاط القوة وتقويتها، لأنه عندما نفعل ذلك، فإن إمكانية تسلل البعض مستقبلاً لضرب جبهتنا الداخلية ستكون ضعيفة، كما أنه لابد لنا من التفكير بالمستقبل بطرق جديدة سواء ما يتعلق منها بالبناء الوطني، أو ببناء العلاقات مع الآخرين سواء أكانوا عرباً أم أجانب.
ملخص ما أريد قوله بوضوح شديد:
– إن مساراً جديداً قد بدأ بزيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، وهذه الزيارة فيها مصلحة للإمارات، وسورية، وهو أمر لابد من دعمه وتشجيعه.
– إن هذا المسار لم يكن ليبدأ، ويتطور لولا صمود سورية شعباً وجيشاً وقيادة، ودعم حلفائها لها بقوة وقناعة، وحدوث تحولات عالمية نتيجة ذلك.
– كما أفهم فإن دمشق تتطلع للمستقبل، ولن تنظر للماضي على مرارته وآلامه وكارثيته، ولكنها تعلمت الكثير الكثير، وهو الأهم بالنسبة لنا.
– بقدر ما نحن بحاجة للانفتاح الاقتصادي، ولإعادة الإعمار كهدف استراتيجي، فإن القناعة يجب ألا تتزعزع بأن المواقف السياسية الاستراتيجية لدمشق لن تتغير أبداً، ولكنها تعرف كيف تفصل الملفات، وتستفيد من التحولات بما يحقق مصلحة شعبها، الذي صبر طويلاً.
القضية إذاً ليست عواطف ومشاعر، وليست اكتشافاً لعروبة دمشق فجأة، إنما تحولات إستراتيجية صنعتها دماء آلاف الشهداء، والجرحى، وصبر شعب عظيم، وثبات وشجاعة جيش بطل، وإدارة ذكية وواعية وحكيمة للملفات من قبل الرئيس بشار الأسد، وكل ذلك ترافق مع تغيرات وإعادة تموضع في المركز الإمبراطوري الأميركي، إذ بدأت التحولات الكبرى من هناك.
وسورية جزء أساسي ومساهم، وصانع لهذه التغيرات، فالتاريخ علمنا أن لا أحد يزور مهزوماً أو هارباً من حرب، أو معركة.
دمشق كانت ولا زالت قلب العروبة النابض، وهذا القلب لن يتوقف عن الخفقان من أجل العرب، كل العرب مهما اختلفت أنظمتهم ودولهم، لكنها عروبة الكرامة والمقاومة والثقافة، عروبة الانفتاح والتلاقي، عروبة من يحترم خصوصية شقيقه ولا يتدخل بشأنه، عروبة شجاعة وليست جبانة، عروبة واعية وليست متهورة، وضمن هذا الفهم وهذه الروحية تستقبل دمشق كل زوارها العرب، بعيداً عن المبالغة والعاطفة، وتطلعاً لمستقبل نقوى فيه معاً، ونضعف فيه معاً.