أكثر ما يدعو للإثارة في الوثيقة الأردنية التي قالت صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية إنها حصلت على نسخة منها، ونشرتها يوم الجمعة الماضية، هو عنوانها الذي حملته، فعلى الرغم من أنها كانت، مع ملاحقها، قد جاءت في ست صفحات إلا أنها عنونت بـ«لا ورقة»، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، فالكثير مما ورد فيها كانت العديد من وسائل الإعلام قد تناقلته على امتداد الأشهر والسنوات السابقة بتفاصيل لربما كانت تفوق مما أوردته تلك الوثيقة، ولربما أيضاً كان توصيف «السرية» الذي ألحق بذلك العنوان لا يعدو أن يكون محاولة لإضفاء نوع من الإثارة الممتزجة بالغموض للقول إن الجعب لا تزال تحوي المزيد مما لم يتكشف حتى الآن.
تعرض الوثيقة في مقدمتها للسنوات العشر الماضية من عمر الحرب في سورية وعليها، والتي طغت عليها، كما تقول الوثيقة، محاولات «تغيير النظام السوري»، لتقترح هذه الأخيرة، كنتيجة لفشل تلك المحاولات، الانتقال إلى خيارات أخرى من نوع «التغيير المتدرج لسلوك النظام»، والجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن المصطلح الذي احتواه المزدوجان الصغيران الأخيران ليس بجديد، بل ومن الممكن توصيفه بأنه مكرور، فقد سبق لمسؤولة العلاقات الخارجية في السفارة الأميركية ببيروت جوليت مور، أن استخدمته تعبيراً عما كانت واشنطن تريده من دمشق في غضون أزمة العامين 2005 و2006، وكرد أيضاً على مطالب «إعلان دمشق» في 16 تشرين أول 2005 التي جاءت أصلاً انطلاقاً من قراءة تقول بحتمية سقوط السلطة السورية بعيد انسحابها من لبنان الحاصل قبل ستة أشهر من هذا التاريخ الأخير، تماماً كما حصل مع الاتحاد السوفييتي الذي سقطت حكومته بعيد نحو عامين من انسحاب قواتها من أفغانستان.
وفي سياق متصل تذهب الوثيقة لتعرض للخطوات التي قامت بها العديد من الدول العربية تجاه دمشق، بدءاً من اللقاءات التي أجراها وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد مع العديد من نظرائه العرب على هامش الدورة الـ76 من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت في شهر أيلول المنصرم، ثم مروراً بالزيارات الرسمية الأردنية إلى سورية، ووصولاً إلى الاتصالات التي جرت بين العديد من القادة العرب والرئيس بشار الأسد، لتضع السياقات السابقة في إطار خطة كان قد أعدها الجانب الأردني قبل عدة أشهر، وهي الخطة التي حملها الملك الأردني معه في ترحاله إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن في تموز الماضي، ثم للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي التقاه في سوتشي في آب المنصرم.
تقوم الخطة الأردنية التي تلحظ بين ثناياها هبوب رياح دولية، تفرض بالضرورة هبوب نظيرة إقليمية متناغمة معها، من النوع الداعم لمحاورها التي تركزت في اثنين، أولاهما «خروج القوات الأميركية والتحالف من شمال شرق سورية بما في ذلك من قاعدة التنف الأميركية» التي أقامتها قوات الاحتلال الأميركي عند مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، والتي شكلت على امتداد السنوات الأربع الماضية عامل دعم استخباراتي كبيراً لعمليات الاستهداف الإسرائيلي التي طاولت العمق السوري على امتداد تلك المرحلة، ليشكل ذلك الخروج مقدمة أو بداية «للحد من النفوذ الإيراني في أجزاء معينة من سورية»، مع الإشارة هنا إلى أن إدارة الرئيس بايدن لم تعد تضع إخراج إيران من سورية بين أولوياتها، الأمر الذي أثبتته المداولات التي جرت على امتداد الأيام العشرة الماضية في واشنطن والتي خرجت للعلن مؤخراً، وهو لربما ما يفسر الإشارة الأخيرة التي عرضت لها الوثيقة فيما يخص تلك المسألة، والتي يفهم من الصيغة التي ظهرت فيها بأنها جاءت على النحو الذي جاءت عليه إرضاء لجهات أخرى متضررة من التحالف القائم بين طهران ودمشق.
تستمد الخطة الأردنية التي يمكن لها أن ترقى إلى مستوى «المبادرة» التي يفترض لها أن تهيئ الأرضية لقيام تسوية سياسية للأزمة السورية، عوامل قوتها من التقارب الحاصل ما بين واشنطن وموسكو منذ التوافق على إصدار القرار 2585 الخاص بالتمديد لإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية شهر تموز الماضي، الأمر الذي وصفته واشنطن في حينها بأنه يمثل مقدمة لتلاقيات أكبر في سورية، ومن الراجح هو أن «المبادرة» سوف تزداد مشروعيتها، فتصبح أكثر قدرة على تلبية المرجو منها، كلما زادت التلاقيات الروسية والأميركية فيما يخص الشأن السوري، حيث تشير التقديرات إلى رجحان هذا الفعل الأخير على نقيضه انطلاقاً من تفاهم شفوي، يمكن لحظه بشكل يصعب معه تبيان مدى نصيبه من التماسك، لربما حصل ما بين الرئيسين الأميركي والروسي عشية لقائهما في جنيف شهر حزيران الماضي، وهو يقضي بتحييد الملف السوري عن باقي الملفات العالقة بين البلدين.
يمكن القول إن الدور الذي تحاول عمان القيام به في سورية هو محصلة للتفاهمات التي جمعتها جنباً إلى جنب مع كل من القاهرة وأبو ظبي، والثالوث يعتد بمظلة دولية تمنحه الكثير من عوامل القوة واحتمالات النجاح، ولربما كانت هناك الكثير من المعطيات التي قادت بكل هؤلاء إلى الأخذ بأسباب الحوار مع دمشق، لكن في الذروة منها حقيقة راسخة تقول إن الحوار يكون عادة مع المنتصر الذي أدار دفة السياسة بشكل يرقى إلى مستوى الصمود الأسطوري الذي أبداه حماة هذا الوطن.