مع ثورة التكنولوجيا والمعلومات ووسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت تحولات جذرية في العالم وفي أساليب معيشة الناس، أصبح الاستثمار في المعرفة والبحث العلمي والاستثمار في البشر حاجة سياسية واقتصادية واجتماعية ملحة، وليس ترفاً.
وفي ظلّ المتغيّرات الجديدة التي طرأت على العالم وظهور قوى منافسة، تحَوّلت بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأميركية العلماء والخبراء في التكنولوجيا إلى سلاح دبلوماسي، في محاولة لتضمن هيمنتها وتسلطها إذا ما تراجع نفوذها السياسي والاقتصادي.
وهكذا نشأ مفهوم سياسة العلم ومفهوم سياسة البحث العلمي، وبظهور هذا المفهوم سعت معظم دول العالم إلى إعلان سياساتها الخاصة بالبحث العلمي لتكون إطاراً قانونياً للقرارات من أجل تحقيق أهدافها، حيث يُعتبر البحث العلمي قاعدة أساسية تنطلق منها مبادرات التنمية الصناعية والاقتصادية والاجتماعية وهو مقياس تقدم الدول، كما أن التفاوت الواضح بين الدول المتقدمة والدول النامية يرجع بشكل أساسي إلى الاستثمار في البحث العلمي وتطبيق نتائجه في القطاعات التنموية.
بالمقابل أثبتت الدراسات في مجال اقتصاديات التعليم مدى أهمية الاستثمار في الطاقة البشرية وأثره في التنمية الاقتصادية من خلال الاستثمار في طاقات الإنسان الإبداعية المتمثلة في البحث العلمي ومن شأن سهولة نقل التكنولوجيا، والتعاون العلمي، والسياسات التي تمول أعمال البحث الأساسية أن تؤدي جميعها إلى تعزيز الابتكار المستند إلى المعرفة العلمية الأساسية الذي نحتاج إليه للنمو ولتحقيق طفرة في التقدم العلمي، ومن الأمثلة؛ تطوير لقاحات «كوفيد – 19» التي أدت لإنقاذ ملايين الأرواح ومن جانب آخر عادت الجائحة بالتقدم الاقتصادي عقوداً إلى الوراء.
ولإعادة البناء بصورة أفضل ومكافحة تغير المناخ، يتعين توفير تمويل مستدام لكم كبير من الاستثمارات العامة، فالاستثمار العام يمثل مستقبلاً أقوى وأكثر شمولاً للجميع لأنه ليس بإمكان الشركات الخاصة القيام بذلك كاملاً لأن استثماراتها غالباً ما تكون ضعيفة في هذا المجال في الوقت الذي يشهد فيه العالم تطوراً ملحوظاً في علاقة الاتصال بين المعرفة العلمية والقوة الاقتصادية والسياسية، ولذلك فإن تقليص الإنفاق على البحث العلمي يهدد مجال الابتكار وقد دقّ الباحثون ناقوس الخطر من تراجع الاستثمار في مجال البحث العلمي، وفي رأيهم تقليص الإنفاق على مجالات البحث الأساسية يؤدي إلى تعطيل التقدّم في 15 ميداناً تتعلق بإنقاذ حياة البشرية بدءاً من الإنسان الآلي وطاقة الاندماج النووي وانتهاء بقطاع الزراعة والصحة.
بالمقابل تضطلع العلوم الأساسية بدور أكبر في الابتكار الأخضر «بما في ذلك الموارد المتجددة» منه في التكنولوجيات غير النظيفة «مثل توربينات الغاز»، ما يشير إلى أن السياسات الداعمة للبحث الأساسي يمكن أن تساعد على معالجة تغير المناخ في وقت يكتسب فيه الإنفاق على مجال البحوث صبغة سياسية غير معهودة، وقد بزغت خلال العقود الأخيرة أقطاب عالمية جديدة أعادت تعريف خريطة الاقتصاد العالمي وحققت معدلات نمو عالية من أبرزها الاقتصادات الناشئة في الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
وقد استشعرت هذه الدول أهمية الاتجاه نحو الاستثمار في مجالات البحث العلمي والتطوير والابتكار كأداة إستراتيجية للمساهمة في تحقيق استدامة النمو الاقتصادي والمحافظة على تنافسيتها أمام مراكز القوى العالمية التقليدية.
إن مجموع ما تنفقه أي دولة على البحث العلمي ونسبة موازنة البحث العلمي إلى الناتج القومي الإجمالي يعتبران المؤشرين الأساسيين للمقارنة بين دول العالم في إمكاناتها البحثية والتطويرية، وهذان المؤشران مرتفعان في الدول الصناعية المتقدمة بالتكنولوجيا ومنخفضان في الدول غير الصناعية والمستهلكة للتكنولوجيا.
بالمقابل تبرز أهمية الاستثمار في الإنسان في جوانب اقتصادية عدة كصقل مهارات القوى العاملة، ورفع كفاءة أداء العاملين وتطويرها من حيث المهن الدائمة، وتبني أسلوب علمي في اتخاذ القرارات وبناء إستراتيجيات تفوق الإنتاج والبحث كنشاط علمي تكنولوجي مؤسسي، فكوريا ما بعد الحرب كانت من أفقر بلدان العالم، وكان أقل من 20 بالمئة من السكان يعرفون القراءة والكتابة.
أما اليوم، فكوريا الجنوبية واحدة من أكثر بلدان العالم تقدماً، يقوم اقتصادها على مواهب شعبها ومعارفهم وليس على الموارد الطبيعية.
ويعتقد أن كل بلد فقير اليوم يجب أن يعمل للخروج من دائرة الفقر مثلما فعلت كوريا والصين، وأمام الدول النامية ثلاثة خيارات لذلك وهي: تسريع وتيرة النمو الاقتصادي الشامل والمستدام؛ وبناء القدرة على الصمود أمام الصدمات والتهديدات؛ وزيادة الاستثمار – بفعالية – في البشر.
من الناحية الاقتصادية الاستثمار في البشر هو استثمار في النمو الاقتصادي وتحتاج البلدان النامية إلى المزيد من الاستثمار في البحوث وبناء رأس المال البشري لأن التسارع التكنولوجي يغيّر من طبيعة العمل.
وتقدر بعض الدراسات أن ما يصل إلى 65 بالمئة من أطفال المدارس الابتدائية اليوم سيعملون في وظائف أو مجالات غير موجودة بعد.
كل ما تقدم يؤكد أهمية رأس المال البشري والتغيير الهيكلي والاستثمار في البحوث لتحقيق النمو الاقتصادي، وبالتالي نتطلع إلى مستقبل أفضل للعالم من خلال الاستثمار في البحث العلمي وفي الإنسان.