أجمعت كل التقييمات على أن القمة الافتراضية بين الرئيسين الصيني شي جين بينغ ونظيره الأميركي جو بايدن قد حملت نبرة إيجابية واستعداداً للعمل من أجل تطوير علاقات سليمة ومستقرة. وقد كان واضحاً أن كلّ طرف يعترف بقوة الآخر ولا يهدف إلى استفزازه أو تجاوزه لأن هذا شبه مستحيل، بل يبحث عن السبل للعمل معه دون فقدان مركزيته العالمية. وكان واضحاً أن الرئيس الصيني يستند إلى حضارة وعراقة تنفذ من بين تعابيره وكلماته، وإلى الحكمة التاريخية الصينية في التعامل مع الأمور المستعصية والمهمة حين شبّه الولايات المتحدة والصين بالسفينتين الضخمتين اللتين تبحران في المحيط مشدداً على أهمية أن يبقي الجانبان قبضتهما متينتين على المقود لضمان عدم فقدان السيطرة والاصطدام ببعض، وفي هذا التشبيه ترسيخ للواقع الجديد وهو أن الصين لم تعد القوة الثانية في العالم بل أصبحت القوّة الندية للولايات المتحدة ولذلك لا مجال إلا إلى التفاهم معها حول القضايا الثنائية والدولية لأن العلاقة بين هاتين القوتين الضخمتين هي الضمانة لسلامة العالم واستقراره. وبادل الرئيس بايدن الرئيس الصيني هذا الاعتراف حين أكد أن بلاده لا تدعم «استقلال تايوان» وهذه هي الجملة الذهبية التي أراده الرئيس الصيني أن ينطق بها.
ولكن المفارقة الصارخة اليوم هي بين هذا الجو الإيجابي الذي يشي بإدراك عميق من قبل كل طرف بقوة الآخر وعدم إمكانية زحزحته أو التأثير على مكانته في الساحة الدولية وبين القصف الدبلوماسي وغير الدبلوماسي المركز الذي يتلقاه الاتحاد الروسي من الولايات المتحدة وحلف الناتو في مختلف القضايا الجوهرية التي تمسّ وحدة وأمن واستقرار الاتحاد الروسي. وإذ إن ما يقوم به الغرب من تدخلات في الملف الأوكراني والبيلاروسي وغضّ الطرف عن العثماني الجديد سواء في دعمه لأوكرانيا بالطائرات المسيرة أم في دعمه لأذربيجان ضد أرمينيا ويشاركه في ذلك كيان الاحتلال الحليف الآخر للغرب في المنطقة، لم تعد كل هذه التدخلات العدوانية خافية على أحد وأخذت تقضّ مضاجع تحالف الدول المستقلة.
والأغرب من ذلك هو أن يصدر عن أعضاء الكونغرس أنهم لن يعترفوا بعملية انتخاب الرئيس الروسي بوتين في عام 2024، وفي هذا تصعيد وتدخل غير مبرر وغير مسبوق في الشؤون الداخلية لروسيا وفي العلاقة بين البلدين، إضافة إلى نشر الصواريخ والأسلحة المتقدمة في الدول الأوروبية الجارة لروسيا، وموقف الولايات المتحدة العدائي من وصول الغاز الروسي إلى أوروبا وغيرها من القضايا التي لا تحمل أبداً نيات تصالحية بين الغرب والاتحاد الروسي.
فما السبب الحقيقي لهذه المفارقة بين توجه الولايات المتحدة لتخفيف حدة التوتر مع الصين وفي الوقت ذاته إشغال حلفائها في الناتو وكيان الاحتلال بإجراءات تزيد من حدة التوتر بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي وتستهدف حلفاء روسيا التقليديين من أوكرانيا إلى بيلاروسيا وأرمينيا؟ إضافة إلى تشغيل العثماني الجديد لدعم أوكرانيا ضد روسيا والإعلان أكثر من مرة عن عدم الاعتراف بضم جزيرة القرم، ناهيك عن تعنته وعدم الوفاء بالتزاماته التي وقعها مع الرئيس الروسي بخصوص اتفاقات خفض التصعيد في الشمال السوري.
هذا الموقف الأميركي من الاتحاد الروسي وآخره وأغربه الشأن المتعلق بانتخاب الرئيس بوتين عام 2024 يستدعي إعادة قراءة سياسة خفض التصعيد التي عبّر عنها الرئيس بايدن في القمة الافتراضية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ قبل أيام. والسؤال الجوهري هو: هل أدرجت الولايات المتحدة في خطتها للمرحلة القادمة التصعيد مع روسيا وخفض التوتر مع الصين في محاولة غير مباشرة لفكّ عُرا التعاضد بين الصين وروسيا والتي تطورت وتنامت في السنوات الأخيرة وشملت مختلف أوجه التعاون بحيث إن الولايات المتحدة رأت في هذا التعاون والتنسيق تهديداً لمستقبل سيطرتها في أوروبا وآسيا؟ وخاصة أن التعاون الروسي الصيني يهدف إلى تشكيل قاعدة للتعاون الإقليمي والدولي منفتحة على القوى الأخرى التي ترغب في الانضمام سواء إلى منظمة شنغهاي للأمن والتعاون كما فعلت إيران أو إلى محور البريكس أو إلى أي صيغة آسيوية من التعاون سواء في «حزام واحد طريق واحد» أم أي صيغة أخرى.
قد لا يبدو للعيان للوهلة الأولى التناقض بين موقف الولايات المتحدة من الصين وموقفها من روسيا أو قد يحاول البعض إيجاد المبرّرات الموضوعية في تفاصيل العلاقة بين الأطراف دون الربط بين أهداف هذه العلاقة المتناقضة ودون التوقف عند المفارقة الواضحة بين التوجه المتصالح نحو الصين وبين التوجه العدائي المناقض حيال روسيا. ولكن معرفتنا بالغرب في المنطقة العربية وخبرتنا العميقة بأساليبه في الارتكاز على تشتيت القوى المناهضة له ودبّ الفرقة بين صفوفها تحتّم علينا هذه القراءة التي بدأت ملامحها وأهدافها واضحة في الأشهر والأسابيع الأخيرة.
كما أن إيحاءات الولايات المتحدة لحلفائها الإقليميين بتسوية خلافاتهم والعمل من أجل منطقة متصالحة مع بعضها يهدف إلى الحدّ من تأثير بكين وموسكو وخاصة الحدّ من أهمية «حزام واحد طريق واحد» واندفاع الدول الإقليمية للانخراط في هذا المشروع الحيوي المهم أملاً في تحقيق نوع من الأمن والسلم والاستقرار لهذه المنطقة من العالم المضطربة غالباً، إن لم يكن دائماً، بسبب التدخلات والأطماع الغربية.
فها هي بداية الانفتاح العربي على سورية تُستكمل في المرحلة الثانية منها بانفتاح إماراتي نحو تركيا وتنسيق واضح بين تركيا وكيان الاحتلال من جهة وبين تركيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة أخرى. ودعوات للقاءات إماراتية إيرانية بعد اللقاءات السعودية الإيرانية مما يشي بتحركات تحت السطح في المنطقة تحركها أو على الأقل توافق عليها الولايات المتحدة الأميركية وخاصة بعد هزيمتهم في سورية وفي أفغانستان وتوقعات باقتراب هزيمتهم وحلفاءهم في الحرب على اليمن وانتهاء هذه الحرب بعودة السيادة اليمنية على كامل التراب اليمني.
من هنا تأتي الجهود لتخفيض حدة التوتر مع الصين اعترافاً واضحاً بالتنين الصيني وموقعه المؤكد على الساحة الدولية من أجل احتوائه تدريجياً، على حين تنصبّ الجهود اليوم على محاولة الإيقاع بالاتحاد الروسي وتشتيت جهوده على أكثر من صعيد واستنزاف طاقاته الداخلية والخارجية كي لا يشكّل قوة مؤثرة في الانفراجات القريبة القادمة على الساحة الإقليمية وكي لا تفقد الولايات المتحدة تأثيرها في المنطقة العربية كما فقدته في أفغانستان وكي تكون شريكة على الأقل في إعادة رسم خريطة التحالفات المستقبلية وشكل القوى الإقليمية الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط.
هذه المفارقات وهذا التخطيط الشامل والمركزي بحاجة إلى فهم معمق ووضع السناريوهات المناسبة له والتي تضمن كرامة ووحدة ومستقبل بلداننا، وقد يتطلب هذا من القيادات الوطنية، وخاصة قيادة الاتحاد الروسي الحليف، العمل المضاعف في هذه المرحلة لمواجهة المفارقات والتحديات التي تأخذ منحى تصاعدياً كل يوم.