كان الأسبوع الأخير من العام 1991 قد شهد حدثاً جيوسياسياً لربما كان الأشد تأثيراً من نوعه على المنطقة، والعالم، منذ انتصار الرومان على المصريين في معركة أكتيوم 31 ق.م، فكلا الحدثين كانا قد قادا إلى نتيجة واحدة هي سيادة القطب الغربي الواحد بعيد انهيار نظيره في الشرق، مع فارق مهم بين الحدثين هو أن الأول كان قد أرسى لهيمنة غربية استمرت لقرون طويلة، في حين يبدي الثاني، الذي أتم عقوده الثلاثة حتى الآن، أنه من الصعب عليه تحقيق ذلك الرسو قياساً للعديد من المؤشرات التي تراكمت بشكل لافت على امتداد العقد الفائت.
في غضون عقد ونصف العقد امتدت بين 1991- 2005 لم تظهر المؤشرات التي تبدت في غضون هذه المرحلة المذكورة أن انفرادية واشنطن بالهيمنة العالمية سوف تعترضها مشاكل يمكن لها أن تتهددها جزئياً أو بشكل حاسم، ظهر ذلك في السلوك الذي راحت تمارسه العديد من مراكز القوى العالمية التي يمكن لها أن تمارس ذلك الدور، وما جرى هو أن هذي الأخيرة سارعت إلى انتهاج سياسات يمكن وصفها بالملحقة بالسياسة الأميركية، لنجد روسيا، وريثة القطب السوفييتي السابق، تذهب نحو مقايضات صغرى تقتصر على مجالات نفعية في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا في مقابل انتهاج سياسات من النوع الذي لا يثير السطوة الأميركية التي راحت تتخذ طابعاً اكتساحياً لكل من يخالفها، أما الصين فقد أظهرت حرصاً على عدم استثارة «الوحش» الأميركي الذي راح يلوح لها بالكثير من أوراق القوة التي يمكن لها أن تحرك المواجع الصينية مثل تايوان وميانمار، حتى بريطانيا، صاحبة الإرث الإمبراطوري العريق وكذا النهج الذي لا يزال يصلح لاعتماده كمدرسة لا ترقى إليها أي مدرسة أخرى، راحت تتبنى سياسات التحاقية كانت في بعض محطاتها ذات طابع انصهاري يضعها في موقع الولاية الواحدة والخمسين للولايات المتحدة، وبذا كانت جميع المؤشرات المتراكمة تشير إلى إمكان امتلاك الهيمنة الأميركية لصفتي الديمومة والاستمرار لأمد كان من الصعب تحديد آفاقه.
كانت حرب «تحرير الكويت» 1991 أشبه بـ«بروفة» لتدشين عصر القطبية الأميركية المطلقة، ثم جاءت أحداث 11 أيلول 2001 لتمهد الطريق أمام اكتساحية أميركية لم تكن تقتصر على التفوق الأميركي العسكري والاقتصادي فحسب، فالفعل كان يعتد بجوانب فكرية وثقافية تمظهرت في بروز صاروخي لظاهرة «المحافظين الجدد» الذين راحوا يعلنون عن رؤيتهم التي تؤسس لعالم جديد يجب أن يتماهى مع الرؤى والمصالح الأميركية بالضرورة، لكن التباشير الحاصلة بدءاً من منتصف ثلاثينية الانفراد الأميركية كانت تشي بمعطيات تختلف في جوهرها عن النصف الأول من هذه الأخيرة.
كان التهتك الأول، مما يمكن لمسه بوضوح، في نسيج «العباءة» الأميركية التي أريد لها أن تظلل العالم، قد ظهر مع صدور القرار 1701 الذي دخل حيز التنفيذ يوم 14 آب 2006، فالقرار من حيث النتيجة كان قد أهال من الردميات كماً هائلاً على «مشروع الشرق الأوسط الجديد» الذي أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس عن بدء صوغه بعد ساعات قليلة من انطلاق العدوان الإسرائيلي على لبنان 12 تموز من هذا العام الأخير، بحيث تبدت أدوات الجراحة الأميركية المعدة لإجراء «العملية القيصرية» معطوبة، وفي الغضون كانت التقارير الواردة من الساحتين الأفغانية والعراقية، اللتين وقعتا تحت السيطرة الأميركية العامين 2001 و2003 على التوالي، تقول إنه إذا ما كان التفوق العسكري الأميركي قد أتاح احتلال الجغرافيا، فإن نظيره السياسي عاجز عن التطويع وجني المكاسب.
سريعاً سوف تظهر نتائج حرب تموز التي كرست تنامياً للدورين الإيراني والسوري المناهضين للسطوة الأميركية في المنطقة، والفعل سيشهد فيما بعد محطتين بارزتين في هذا السياق الأولى في غزة، حزيران العام 2007، والثاني في بيروت، أيار العام 2008، ولربما كانت السياقات السابقة هي التي شجعت الروس للقيام بحرب خاطفة على جورجيا آب 2008 حيث من المؤكد أن الأخيرة كانت قد خاضت تلك الحرب بالوكالة عن واشنطن في مواجهة نهوض روسي كانت تباشيره تلوح في الأفق قبل حين، ومن الراجح أيضاً أن ما سبق كله هو الذي دفع ببيونغ يانغ إلى التوقف عن تنفيذ توافقاتها مع واشنطن تلك التي كانت تقضي بتفكيك برنامجها النووي الذي شكل، ولا يزال، شوكة عصية في الحلق الأميركية.
عندما تبدي بعض أجهزة الجسد خللاً في أدائها فإن ذلك يكون مقدمة لحدوث عطب في أجهزة أخرى لربما لا تعاني أصلاً مما تعانيه الأولى، فبعد شهر واحد فقط من انقشاع الغبار في الحرب الروسية الجورحية، سيشهد الداخل الأميركي أزمة مالية هي الأشد منذ أزمة العام 1929، والفعل كان مؤشراً على أفول السطوة الاقتصادية للولايات المتحدة، التي إن حدثت فلسوف تشكل مقدمات لنظيرة لها عسكرية وسياسية في آن، ومن المؤكد أن ذلك كله سوف يمر بتمرحلات عديدة لا بد لها أن تأخذ وقتها الذي قد يطول، أو يقصر، تبعاً لمعطيات عديدة بل وشديدة التعقيد.
لم تستطع الولايات المتحدة رسم معالم اللوحة العالمية بما يناسب أهواءها ومصالحها، وهذا من حيث النتيجة كان قد أدى إلى مزيد من الانفجارات على امتداد العالم وهي في مجملها راحت، عبر السياقات التي سارت عليها، تؤكد الفشل الأميركي في إمكان السيطرة على الصراعات الدائرة، تلك التي يغذيها «السيروم» الأميركي أو التي يحاول الوقوف على الحياد فيها، واللوحة الجديدة التي تلوح معالمها في الأفق، ستكون بريشة رسامين كثر جنباً إلى جنب النظير الأميركي الذي يمضي في مسار يبدو على استعداد فيه للقبول بإخراج لوحة تشاركية مع رسامين فيهم من المهارة ما لا يقل عن نظائرها عنده.