لا أحد يشك أن الولايات المتحدة دولة كبرى استغلت حجم قدراتها وقواتها منذ الحرب العالمية الأولى وما بعدها لاتخاذ دور يشبه «شرطي العالم» لمحافظة على مصالحها فيه وعلى توسيعها لكن سجل تاريخ أول حرب عالمية يشير إلى عجزها هي وحلفاؤها عن تثبيت ميزان القوى الذي نتج عن انتصار الحلفاء بقيادة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة على دول المحور ألمانيا والدولة العثمانية وهنغاريا عام 1918، فبعد عشرين عاماً من انتهاء الحرب تمكنت ألمانيا ومعها إيطاليا واليابان من شن حرب عالمية ثانية، منذ عام 1939 حتى عام 1945 ضد بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي وكل من يتحالف معهم ثم انضمت الولايات المتحدة في كانون أول 1941 بعد أكثر من عامين من تلك الحرب إلى جانب بريطانيا والاتحاد السوفييتي وفرنسا ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد أن استنزف طرفا الحرب قدراتهما وفي النهاية انتصرت الولايات المتحدة ومن معها على ألمانيا النازية وحلفائها، ومنذ ذلك الوقت وخلال 76 عاماً لم تستطع هذه الدول الثلاث المهزومة من الخروج عن الهيمنة الأميركية والشروط التي فرضت عليها وحرمتها من أي قرار سياسي مستقل عن السياسة الأميركية أو البريطانية حتى هذه اللحظة، بل فرضت عليها الولايات المتحدة وظيفة تخدم إستراتيجيتها في العالم كله حين أسست الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حلف الأطلسي عام 1949 وأجبرت ألمانيا على الانضمام إليه بعد ستة أعوام ونشرت في أراضيها أسلحة نووية باسم الحلف الأطلسي وبدأت بتوظيفها ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ثم فرضت على اليابان عام 1960 التي ضربتها أميركا بقنبلتين نوويتين عام 1945 أن تسمح بنشر أسلحة نووية في أراضيها برغم أن اليابان وقعت على اتفاقية عدم السماح بانتشار الأسلحة النووية، وفي هذه الأوقات بدأ الإجماع الألماني بين الأغلبية البرلمانية الألمانية والجمهور يطالب بنزع هذه الأسلحة الأميركية النووية التي تعرض ألمانيا لخطر لا يجب استمراره، ومثلما كانت الولايات المتحدة تقوم باستغلال ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية طوال تلك العقود، فقد قامت أيضاً منذ نهاية تلك الحرب باستغلال كل أموال النفط العربية في جميع حروبها في مختلف دول العالم وهذا ما جعلها تحتفظ بقوات في دول كثيرة في العالم بما في ذلك دول في الشرق الأوسط.
لكن الواقع الدولي في هذه الأوقات بعد استعادة روسيا الاتحادية والصين لقدرات عسكرية واقتصادية كبيرة وتحالفات إقليمية إستراتيجية في أكبر قارتين أوروبا وآسيا، بدأ يفرض جدول عمل جديداً على الولايات المتحدة لم تستطع تجنب تحدياته الدولية في كلا القارتين وفي العالم كله، فالعالم ينتظر بعد أسبوع نتائج المفاوضات التي ستجريها الولايات المتحدة بمشاركة الدول الخمس التي وقعت على اتفاقية فيينا والحل المتفق عليه في الموضوع النووي مع إيران لأن فشل هذه المفاوضات سيضع كل فريق من الفريقين أمام قرارات غير مسبوقة وهذا ما أشارت إليه قناة «إن بي سي نيوز» الأميركية حين ذكرت في 23 تشرين الثاني الجاري أن بايدن يعد «الخطة باء» في حال فشل أو انهيار المفاوضات المقبلة مع إيران، وقد يلجأ فيها إلى تصعيد العقوبات كشكل من أشكال التهديد لإيران وحلفائها الروس والصينيين، ويرى دانيال لاريسون الكاتب الأميركي الذي ينشر في أهم الصحف الأميركية في تحليله لمجلة «أنتي وور» أول من أمس أن خطة بايدن الثانية هذه بدت مفلسة قبل استخدامها وهذا ما أشار إليه معلقون في قناة «إن بي سي نيوز» حين ذكروا بأن موسكو أعلنت للجميع أن أي تحرك في البحر الأسود أو أوروبا ستواجهه وستحبط أهدافه الإقليمية والعالمية، وكان المحللون في الولايات المتحدة قد حذروا في الأيام الماضية من الخطر الذي تحمله سياسة بايدن في أوكرانيا وضد الصين، وأن الولايات المتحدة لن تجد أحداً في أوروبا يجرؤ فيها على مجابهة موسكو أو الصين، وأن المطلوب من جو بايدن الإقرار بأن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ودور الشرطي الأميركي خلالها، انتهى إلى غير رجعة، وستخسر واشنطن حلفاء أوروبيين في مقدمهم ألمانيا وفرنسا وآخرين في آسيا وفي مقدمهم اليابان وكوريا الجنوبية وباكستان، بينما تلجأ الهند للحياد لأن دولاً كثيرة في العالم ترغب بالتخلص من الهيمنة الأميركية، فإما أن تقبل واشنطن طواعية دفع استحقاق هذا الوضع الدولي الجديد وإما أنها ستدفعه رغماً عنها.