قبل أيام شاركت في العاصمة الروسية موسكو باجتماع دولي لخبراء حول «الأمن في منطقة الخليج»، وهو الاجتماع الثاني الذي أشارك به، إذ جرى الاجتماع الأول في أيلول 2019، وبسبب وباء كورونا لم يتمكن الخبراء من اللقاء الشخصي مرة أخرى، إلا في هذا الشهر بدعوة من معهد الدراسات الشرقية، والحقيقة أن الأجواء اختلفت بين عامي عقد الاجتماعين، ففي عام 2019 كانت البدايات، وكانت الأجواء أكثر توتراً، إذ جرت النقاشات في ضوء آمال كان يعقدها البعض على تحولات في سورية، أو في لبنان، أو في اليمن، وآمال بتغيرات في الموقف الإيراني تجاه العديد من قضايا المنطقة، ولكن ما بين عامي 2019 و 2021 وقعت الكثير من الأحداث، والتحولات في المواقف نتيجة تغيرات ميدانية، وفشل مخططات كان مرسوماً لها أن تحقق تحولات ما، ولكن هذا الأمر لم يحدث.
موسكو أعدت مبادرة للأمن في الخليج باسم «المبادرة الروسية» وجرى عرضها في التسعينيات، ثم طورت عام 2004، و2007 لتصل إلى عام 2019 بدعوة لاجتماع لجنة خبراء دوليين كان لي الشرف أن أمثل بلدي سورية فيه، والحقيقة أن اجتماع عام 2019 لم يكن مثمراً كثيراً، لأن المواقف كانت متمترسة في مكانها، واستندت إلى تفكير غير منتج وبناء، وإلى محاولة إقصاء أطراف في المنطقة عن عملية بناء منظومة أمنية في الخليج، وآنذاك قلنا إن أمن سورية جزء من أمن الخليج، وإن محاولة ضرب الاستقرار، ودعم تنظيمات إرهابية مسلحة قد انعكس على الاستقرار في دول المنطقة بما فيها دول الخليج، وبالتالي فإن إعادة الأمن لسورية وعودة التشبيك العربي مع سورية، سينعكس إيجاباً على كل الدول العربية التي خرجت كلاعب فاعل في الحرب السورية، وتحولت إلى أداة أميركية للضغط على الدولة السورية، والمساومة معها في قضايا سيادية تحت عنوان «المسار السياسي».
أما الاجتماع الذي جرى قبل أيام في موسكو فإن الأجواء تغيرت كثيراً ومنها:
• التحولات في مواقف بعض الدول العربية تجاه سورية، وانكشاف المقاربات الخاطئة والفاشلة، التي بنت عليها العديد من هذه الدول مواقفها تجاه ما يجري في سورية، وأخص هنا بالذكر الأردن، الإمارات العربية المتحدة، مصر.
• الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، وإعادة التموضع، والنفوذ الأميركي بأدوات أخرى كالدبلوماسية، والعقوبات الاقتصادية، والحرب السيبرانية، والعمليات الاستخبارية.
• تطورات الحرب السورية، التي أصبحت فيها اليد العليا للدولة السورية بدعم روسي إيراني، وبالتالي هزيمة الأدوات السورية المحلية التي استخدمت شعارات براقة وكاذبة، وانفضاح الدور الإخواني المدعوم قطرياً وتركياً.
• تطورات الحرب اليمنية التي حسمت اتجاهات هذه الحرب من خلال تفوق الجيش واللجان الشعبية، وقدرتهم على حسم المعارك الميدانية وصولاً إلى مدينة مأرب.
• بروز الدورين الروسي والصيني على الساحة الدولية، وبدء اعتراف الولايات المتحدة على لسان رئيس أركان جيوشها مارك ميلي بأن العالم أصبح متعدد الأقطاب.
• النشاط الواضح للدبلوماسية الروسية على مختلف الساحات بما فيها الساحة الخليجية، على الرغم من أن النفوذ الأميركي يبقى هو الأقوى لاعتبارات تاريخية، وارتباطات أمنية، وعسكرية لدول المنطقة، لكن لا يمكن الإنكار أن هذه الدول بدأت تفكر بنسج شبكة مصالح اقتصادية، وتجارية، وسياسية، مع القوى الصاعدة في العالم أي روسيا والصين.
النقاشات والحوارات المغلقة التي استمرت من خلال ست جلسات عمل عكست أجواء جديدة لهذه التغيرات والتحولات التي أشرت إليها، كما أن النظرة لسورية، وأهمية دورها قد عادا إلى كواليس الدول الخليجية، وإلى العقل السياسي الخليجي، فالمقاربات الخاطئة طوال سنوات عشر، وصلت لطريق مسدود ظهر فيها بشكل واضح تزايد نفوذ، وتأثير لاعبين إقليميين آخرين على حساب دور الدول العربية التي تحولت إلى دور «كومبارس» لا تأثير ولا وزن له، لا بل استخدمت أموال الخليج للأسف لتدمير سورية التي كانت وما زالت مركز التوازن بين إيران ودول الخليج، وجسر الوصل بين مخاوف دول الخليج، وطمأنتها على أمنها، ودورها في المنطقة.
لم تُخفِ النقاشات بين الخبراء وجود تباينات في العديد من المقاربات، ومنها موضوع الدور الإسرائيلي في المنطقة، حيث ظهر بوضوح تباين بين المقاربة السورية الإيرانية، ومقاربة الأطراف الأخرى التي رأت أن كيان الاحتلال الإسرائيلي أصبح لاعباً مهماً في المنطقة، ولابد من إدماجه في منظومة الأمن في الخليج، على حين أن المقاربة التي قدمناها ركزت على أن كيان الاحتلال الإسرائيلي ما زال قوة عدوانية، تعتدي على الأراضي السورية باستمرار، وترفض تنفيذ القرارات الدولية ذات الشأن أي الانسحاب من الجولان العربي السوري المحتل، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لا بل يمكن القول إن هذا الكيان تحول إلى نظام أبارتيد وفقاً للعديد من المقاربات الغربية التي بدأت تظهر في أوروبا وأميركا، وبالتالي فإن الحديث عن دور إسرائيلي في أمن الخليج سيكون عاملاً مزعزعاً للاستقرار في الخليج خاصة، والشرق الوسط عامة.
اللافت أن مسؤولاً عربياً أممياً سابقاً شارك في الاجتماع أشار إلى أن إسرائيل لن تكون إلا عاملاً مزعزعاً للاستقرار، ولن يساعد وجودها في منطقة الخليج على تحقيق الأمن في هذه المنطقة، وهو موقف كان مفاجئاً إلى حد ما.
أما اللاعبون «غير الدولة» فقد تم التطرق لهم، وما يقصد هنا: حزب الله، حركة أنصار الله، الحشد الشعبي، حركات المقاومة الفلسطينية، فقد تمت الإشارة إلى أنه لابد من التنويه إلى أنه قبل الحديث عنهم لابد من طرح السؤال كيف نشأت هذه الحركات المقاومة؟ إذ نشأت كرد فعل على الاحتلال وانتشار حركات التطرف والتكفير، وأشكال العدوان المختلفة على الدول، والشعوب، ولولا ثبات الدولة السورية وجيشها ورئيسها وقدرتها بمساعدة أصدقائها وحلفائها على هزيمة مشروع التفتيت والإرهاب، لرأينا في سورية عشرات التنظيمات الإرهابية تنتشر كالفطر، وتساهم في زعزعة الاستقرار في دول المنطقة، ذلك أن استهداف الدولة ومؤسساتها وتدميرها سيؤدي حكماً لنشوء الفوضى، ونشوء قوى خارج سلطة الدولة، وهي حالة تختلف عن حركات المقاومة التي نشأت نتيجة الاحتلال والعدوان.
الخبراء الروس المعنيون بالشرق الأوسط أشاروا إلى أن هؤلاء اللاعبين لا يمكن تجاهلهم، ولابد من التعاطي معهم كأمر واقع كما هو حال طالبان في أفغانستان.
ما كان مهماً في هذا الاجتماع الدولي أن التعاطي مع المسألة السورية اختلف كلياً، فلم تعد هناك عدوانية كما كان الأمر مع سفير فرنسي سابق عام 2019، والمصطلحات تغيرت، والمقاربات أصبحت أكثر واقعية، لا بل إن أحد المسؤولين الأمميين العرب السابقين قال بوضوح شديد:
«إن إنشاء منظومة أمن في الخليج لابد أن يبدأ من سورية، فإذا تمت المساعدة في إنتاج الحلول في سورية، فهذا سوف ينعكس على أمن الخليج»، وبرأيه فإن «سورية هي نقطة البدء لأن أهم اللاعبين الإقليميين والدوليين منخرطون في المسألة السورية».
وبغض النظر عن رؤية الخبراء الروس التي تركز على أن أمن الخليج منفصل عن الأمن في الشرق الأوسط، وبأن البدء منه مهم لأمن الطاقة والاستقرار، على صعيد المنطقة، وهو ما قد نختلف معهم في هذه المقاربة، إذ إنه لا يمكن الفصل بين الأمن في الخليج عن الأمن في الشرق الأوسط، وبدء إنشاء المنظومة الأمنية الجماعية في الشرق الأوسط يكون من خلال احترام قواعد القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وسيادة الدول واستقلالها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، الأمر الذي يشكل المدخل الطبيعي، لكن بشرط إنهاء كل أشكال الاحتلالات الإسرائيلية والتركية، ومشروعات الهيمنة والتوسع، والإمبراطوريات المفترضة، وتغيير الخرائط الذي إن فُتح فسوف تكون عملية خطيرة تفتح بوابات الصراع لمئة عام قادمة.
الأهم أننا شعرنا بأجواء جديدة، ولغة مختلفة في الحوار، وإقرار بالتحولات الكبرى، ومقاربات جديدة تختلف عما لمسناه في الماضي، وفهم أكثر بأن سورية هي نقطة البدء، كما أكد المسؤول الأممي العربي السابق، ومن دون ذلك سيبقى الحديث عن منظومة أمن جديدة في الخليج مجرد أحاديث للنقاش والحوار.
المبادرة الروسية مهمة وإيجابية، وتقدم طريقة جديدة للتعامل، وتحاول ابتكار منظومة أمن للخليج من خلال ثلاث دوائر: دائرة خليجية، دائرة إقليمية، ودائرة دولية، وبمشاركة العقول والخبراء.
أجواء موسكو الباردة، لم تطغَ على حرارة النقاشات داخل أروقة معهد الدراسات الشرقية العريق، الذي يعتبر أحد مطابخ السياسة الخارجية الروسية، ومشاركة سورية في هذا الاجتماع مؤشر إلى اهتمام موسكو بانخراط سورية في بناء مستقبل المنطقة بشكل عام، مع إدراك أن الحوار الإيراني الخليجي مهم وأساسي، وأنه لا يمكن إقصاء أحد لبناء مستقبل أكثر أمناً واستقراراً لشعوب ودول المنطقة.