أفادت تسريباتٌ إعلامية أن الإدارة الأميركية اتفقت على أهدافٍ نهائية محددة لإدارة الملف السوري في المدى المنظور، وحسب التسريبات فإن «الأولويات الأميركية التي تحدّث عنها مسؤولون أميركيون في جلساتٍ مغلقة في واشنطن قبل أيام، تشمل: أولاً، البقاء في شمال شرقي سورية واستمرار هزيمة داعش. ثانياً، المساعدات الإنسانية عبر الحدود. ثالثاً، الحفاظ على وقف إطلاق النار. رابعاً، دعم المحاسبة وحقوق الإنسان والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. خامساً، دفع عملية السلام وفق القرار 2254. يضاف إلى ذلك حرص واشنطن على دعم الدول المجاورة لسورية واستقرارها»، وأضافت التسريبات: إن «التغيير المعلن في الأهداف الأميركية في سورية، على محدوديته هو نتيجة لتقدير (المسؤول في الإدارة الأميركية عن ملف سورية) بريت ماكغورك الذي لديه قناعة مختلفة تقوم ضرورة أن تكون الأهداف الأميركية منسجمة مع أدواتها، وقدرتها على استخدام هذه الأدوات، ومدى استعداد موسكو للتعاطي مع هذه الضغوط. كما أن فريق بايدن حريص على عدم انهيار المفاوضات مع إيران لاستئناف العمل بالاتفاق النووي وعدم اتخاذ خطوات تصعيدية ضد إيران في سورية، باستثناء الردّ على استهداف أميركا ودعم غارات إسرائيل».
من المؤكد أن هناك تغييراً في المقاربة الأميركية تجاه سورية، لكن هل التغيير الحاصل يتعدى المقاربة إلى الأهداف النهائية التي يريد البيت الأبيض تحقيقها في سورية؟
ينقسم المراقبون حول الإجابة عن السؤال السابق، حيث يرى من يدافع عن وجود تغييرٍ في الأهداف، أن الرؤية التي توصلت إليها إدارة بايدن تسقط أمرين في غاية الأهمية كانت إدارة ترامب قد وضعتهما في قلب رؤيتها لإدارة الملف السوري وهما:
-الأول: ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية للمحور المعادي لسورية شرط «انسحاب إيران من سورية» كممرٍ إلزامي لأي تقاربٍ أو قبولٍ ببدء مسار التطبيع مع دمشق.
-الثاني: عدم المعارضة الحاسمة للخطوات الأخيرة التي اتخذت للتطبيع مع دمشق، وخاصةً التقارب العربي معها، الذي ترافق مع ثلاثة أوامر تنفيذية خلال الشهر الماضي صادرة عن وزارة الخزانة الأميركية تخفف بموجبها القيود التي تحكم آلية حصار الشعب السوري المسماة «قانون قيصر».
ما يذكره الواثقون من وجود تغييرٍ أميركيٍّ تجاه سورية، أمرٌ واقع، لكن إسقاط بعض اللاءات لا يعني بالمطلق تغيير الأهداف الأميركية تجاه سورية، تلك الأهداف المرتبطة بالوضع في الإقليم عموماً وفي العراق ولبنان والتفاوض حول النووي الإيراني خصوصاً، والمرتبطة أيضاً بالصراع وبقاء الاحتلالات على أرض سورية، وحتى المطالب المصوغة ضمن المعلومات المسرّبة لا تشير إلى تغييرٍ في الأهداف، وهنا لا بد أن نفصّل لتبيان هامش المناورة الضيّق في ما يخص التغيير من الموقف الأميركي من سورية:
أولاً، التطبيع العربي: لم يأتِ التطبيع العربي برغبةٍ من الإدارة الأميركية، بل هو نتيجةٌ مباشرة لاستنفاد الحرب على سورية أدوات الضغط الأقصى التي جرى تجريبها واستخدامها على امتداد السنوات العشر المنصرمة، ونحن هنا نتحدث عن غضّ طرفٍ أميركيٍ عن التطبيع ناتجٍ عن الاضطرار لتجريب مسارٍ آخر لا تظهر فيه الولايات المتحدة بمظهر المتراجع عن رؤيتها للدولة السورية وموقفها منها.
ثانياً، الأهداف التي يحملها غض النظر الأميركي عن التطبيع العربي تتلخص بمحاولة إطلاق مسارٍ لإعادة احتواء دمشق على قاعدة تقديم تنازل مقابل تنازل، استناداً إلى الوضع الاقتصادي السيئ الذي تمر به البلاد نتيجة سنوات الحرب والحصار والاحتلالات الجاثمة على أراضيها. وهنا نرى أن الانفتاح العربي على دمشق سياسياً لم تتم ترجمته على أرض الواقع كما يجب، ولم يجرِ حتى اللحظة اتخاذ خطواتٍ مواكبة في الجانب الاقتصادي على وجه الخصوص تشير إلى انفتاح عملي.
ثالثاً، البند الأول في المعلومات المسرّبة عن الإدارة الأميركية حول أهدافها في سورية تشير إلى التوافق على بقاء الاحتلال الأميركي في شمال شرق سورية، وهذا أمرٌ يعكس بشكلٍ قاطع حدود أي تغييرٍ في موقف البيت الأبيض من سورية، فربط الجبهتين العراقية والسورية لا يزال قائماً، ومحاولة خلق توازن على الأرض يريح تل أبيب هو الأمر الثابت.
رابعاً، تجميد النزاع في سورية، هو الآخر يعد في صلب كامل الإستراتيجية الغربية تجاه سورية، وخاصةً الأميركية والتي كانت في صلب اهتمامات المسؤول السابق في إدارة ترامب جيمس جيفري الذي أشار أكثر من مرة إلى أن الأساس يبقى الحفاظ على وضعية التجميد الميداني، وعدم منح الجيش العربي السوري والقوات الحليفة أي فرصةٍ لتوسيع سيطرتها ومجابهة الاحتلالات الباقية على أرض سورية وأدواتهم.
خامساً، لا تزال حجة محاربة داعش العنوان الأبرز للوجود الأميركي في سورية الداعم لميلشيا «قسد» الانفصالية، وهذا أيضاً مؤشرٌ آخر على عدم وجود أي تغيير ملموس تجاه سورية، مع أن بعض الأصوات الأميركية قد عرّت هذه الحجة، حيث ذكرت «مجلة نيوزويك» في تحليلٍ لها الشهر الماضي «تستضيف التنف ثكنةً صغيرة تضم نحو 200 جندي، وحجم هذه القوة محدود فيما يتعلق بالتأثير على الظروف في البلاد. كما أن تنظيم الدولة الإسلامية مجزأٌ وما تبقى من أنشطته في سورية تجري بشكلٍ سري. لهذا فإن قوة أميركية تقليدية في وسط الصحراء السورية لا يمكنها مواجهة ذلك، بل هي تمثل فقط هدفاً سهلاً».
سادساً، الولايات المتّحدة لا تزال تعتمد المناورة السياسية لإعادة تشكيل المنطقة على أسسٍ غير مختلفة عن الماضي، بمعنى أن السعي لتشكيل تحالف من الدول التي تدور في فلك السياسة الأميركية في المنطقة العربية لا يزال هو أساس مقاربة البيت الأبيض لصورة المنطقة وتوازناتها، إضافة إلى «دعم أمن واستقرار الدول المجاورة لسورية» من حلفاء واشنطن بالتأكيد، حسبما ورد في الوثيقة، وعليه فإن خطوات تطبيع بعض الدول العربية تندرج في هذا السياق، كما أن غضّ الطرف الأميركي عن تصعيد الاعتداءات الإسرائيلية على سورية يندرج هو أيضاً في ذاته السياق.
إن التغيير المنشود تجاه سورية لم يرَ النور حتى اللحظة وسط صفوف إدارة بايدن، لكن غضّ النظر عن بعض التطورات الإيجابية أمرٌ بدأ ولكنه لا يزال في سياق المناورة، والضغط الميداني هو وحده الكفيل بإعادة حسابات الولايات المتّحدة في المنطقة، وخاصةً في سورية والعراق، حيث لا تزال الجبهتان مترابطتين في ذهن وتفكير صانع القرار في الولايات المتّحدة، ولا يزال «الاحتلال الرخيص» وفق تعبير الساسة والإعلام الأميركي والغربي هو العامل الحاسم في استسهال الاستمرار في تبني الإستراتيجية الأميركية ذاتها تجاه سورية منذ سنوات.