لم يكن البيان الذي نشرته وزارة الخزانة الأميركية في 23 من شهر تشرين الثاني الماضي، ودخل حيز التنفيذ بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ الأخير، جديداً فيما احتواه، ولا هو ذهب لشق طريق جديدة في مسار غير مسلوك فيما سبق، فالبيان الصادر عن الذراع الأمضى للجسد الإمبراطوري حين يختار هذا الأخير تفعيل الحصار كبديل عن الزج بمستلزمات العسكرة وما يمكن أن يتبعها من نتائج، يمكن وسمه بالقفزة الثالثة بعد إعلان الرئاسة اللبنانية في 19 آب المنصرم عن تلقيها لموافقة أميركية، جرى تمريرها عبر السفارة الأميركية ببيروت، على استجرار للبنان للغاز والكهرباء المصريين مروراً عبر الأراضي الأردنية والسورية، وكذا بعد البيان الصادر عن الوزارة، الذراع عينها في 12 تشرين الثاني الماضي، والذي تضمن إعفاءات تتعلق ببعض الأنشطة والمعاملات من بينها تخويل الأمم المتحدة، وفقاً لشروط محددة، القيام بأنشطة تتعلق بالاستقرار و«التعافي المبكر»، حيث سيشكل هذا المصطلح علامة بارزة جرى استخدامها للمرة الأولى في البيان السابق الذكر، وسيجري استخدامها لمرة أخرى في البيان الذي مثل القفزة الثالثة، والذي جاء في تراسيمه خطوة متقدمة على الخطوتين السابقتي الذكر، ومن المؤكد أن هذه الخطوة لن تكون هي الأخيرة، ولا الأعلى، في سلم وضعه الأميركيون وهم قرروا الارتقاء على درجاته درجة درجة، أو خطوة خطوة، حيث الصعود وسرعته هنا مرتبطان بالدرجة الأولى بتحفيز الروس دفعاً بهم لتمرير اختناق 8 كانون الثاني المقبل الذي سيشهد تمديداً مفترضاً للقرار 2585 القاضي بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية.
يشي السياق السابق، الذي نعني به هنا خيار الأميركيين القاضي بالسير خطوة خطوة بالتزامن مع «المرونة» التي يبديها الروس، بأن واشنطن باتت تتبنى رؤية جديدة تجاه الأزمة السورية وهي تختلف في كثير من معطياتها عن نظيرتيها زمن الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، ومن الراجح أنها، أي تلك الرؤية، باتت عاملاً مساعداً في دفع مسار التسوية السورية قدماً إلى الأمام، وهي في أدائها أشبه ما تكون بـ«نقط زيت على براغ صدئة» تساعد على عودة حركة المفاصل التي أصابها التآكل بفعل قلة الاستخدام إلى حركتها التي كانت عليها فيما سبق، وكنتيجة، يبدو تأكيدها الآن مرهوناً باستمرار المناخات السائدة حالياً، وفيما بعد، في سياقاتها التي تسير عليها من دون أن تعترضها أعاصير من النوع القادر على تغيير اتجاهاتها، ومن خلالها يمكن تلمس اتجاه عام في السياسة الأميركية ماض نحو «دفن قانون قيصر» لكن من دون أن يسبق الفعل إعلان نعي رسمي جرت العادة في مثل حالات كهذه على أن يكون سابقاً لذاك الفعل المذكور.
نقول: إن «القفزة الثالثة» كانت هي الأعلى من بين سابقاتها قياسا إلى ما تضمنتها بدءاً من السماح بشراء المنتجات البترولية المكررة ذات المنشأ السوري لاستخدامها في سورية، مروراً ببعض المعاملات مع «عناصر من الحكومة السورية» على أن تكون لدعم الأنشطة «غير الهادفة للربح»، ثم وصولاً إلى المشاريع الداعمة للتعليم ودعم الحفاظ على مواقع التراث الثقافي وحمايتها، وفي تراجم هذا كله يمكن القول: إن عجلة الترميم لكينونة الدولة ومقومات صمودها كإطار عرفت فيه، ومارست دورها من خلاله، قد انطلقت، ولربما كان ذلك خطوة لا تقل في أهميتها عن التعافي السياسي والاقتصادي، وهي تعطي بالتأكيد مفهوماً أوسع لـ«التعافي المبكر» الذي جرى تداوله في بيان وزارة الخزانة الأميركية الأول ثم جرى استخدامه للتأكيد عليه في بيان هذي الأخيرة الثاني.
بهذين البيانين، اللذين لن يكونا الأخيرين على الأرجح بل ستتبعهما شقيقات تذهب بالصورة نحو فضاءات أوسع، يصبح السوريون على أعتاب رواق المطار الذي تعلوه لائحة مكتوب عليها «المغادرون» لتوديع «قانون قيصر» الذي يبدو وكأنه حزم أمتعته لمغادرة بلادهم بعد إقامة ثقيلة كانت لها تداعيات كبرى على أدق التفاصيل التي يعيشونها، وقرار المغادرة يمثل اعترافاً أميركياً صريحاً بفشل السياسات التي اتبعتها واشنطن تجاه الأزمة السورية بشقوقها العسكرية والسياسية والاقتصادية على حد سواء، كما يمثل من جهة أخرى صوابية المواقف التي انتهجتها القيادة السورية في ذلك الثالوث السابق الذكر، والتي شكلت، جنباً إلى جنب صمود السوريين، أحد العوامل التي دفعت نحو هذا التراجع الأميركي الذي بدأ بعبارات «المساعدات الإنسانية» و«ضرورة الوقوف على معاناة الشعب السوري»، لكنها ستكرس في النهاية إرساء لمسار سياسي لن يذهب بعيداً عن آمال السوريين وطموحاتهم في بناء دولتهم المستقبلية التي ستقوم على جب إرثها الحضاري، وركائز الأسس التي قامت عليها، جنباً إلى جنب الأخذ بأخطاء التجربة التي شكلت نوافذ للخارج سهلت على هذا الأخير الولوج من خلالها إلى رواق البيت وغرفه الداخلية، إذ لطالما كان من المؤكد أن العامل الإنساني لا يظهر طاغياً في السياسات إلا عندما يتبين لصانع هذه الأخيرة انسداد الآفاق أمام القديمة منها والتي لم يكن ذلك العامل يمثل فيها أيا من المرامي التي يدرجها من بين أولوياته.