مطبخ السياسة يستند إلى أن مقياس الحق أداته القوة، وهذا ما تجسده ماهية السياسة التي تستند إلى النتائج العملية، والتي تنتج عنها معتمدة على المصالح التي تخدمها بعيداً عن أي تفسير ثقافي لها، لأن السياسة هي مملكة الأفعال الموضوعية، وجوهرها يعني إدارة الممكن، وسعيها لتحقيق أهدافها يكون عبر توازن القوى واتحاد مَنْطِقَي القوة والمصالح، ونرى مريديها يرددون مفردات ينبغي، ويجب، وإني أرى، وإني أعتقد، وكان من الواجب فعل كذا، أو كان بالإمكان تفادي كذا.
بين التقليدي والجديد والمجدد يقف المتلقي أو القارئ أو المتابع أو حتى المحلل، يأخذه الكم الهائل من المعلومات المتضاربة في دقتها وضخِّها للدسم وحاجتها لبث السمّ فيه، أو تقديمه منقوصاً من دون جزم أو تأكيد مع رؤية ثقافية أو مذهب أخلاقي لا يختلف عن أساليب الدراما التي تجسد الخير والشر، فأين تكون السياسة التي تطورت كثيراً بعد أن استوعبت منجزات مفكريها وفلاسفتها في العصر الوسيط والحديث؟ وأهمهم مكيافيللي «الغاية تبرر الوسيلة» وتوماس هوبز وكارل ماركس ووليام جيمس الذي «أسس المذهب البراغماتي» هؤلاء الذين قاموا عملياً بتأطير فكر ماهية السياسة الخفي، ومن ثم فككوا ما كانت عليه، وحللوا واقعها، وأوجدوا ما الذي يجب أن تكون عليه، رسموا اليمين واليسار، وفرزوا الشمال عن الجنوب، لأنهم فهموا أن السياسة هي المدير الناجح لجوانب الاقتصاد، وفي الوقت ذاته هي المنفذ الأمين لسياساته.
ضفاف السياسة دائماً مستقرة، ما بينها يمر الهادر والهادئ، الصاخب والمسالم والمنضبط والمنفلت، صراعات نفوذ لا شرق ولا غرب، لا شمال ولا جنوب، لا ميثاق، تريث وانتظار ورؤى تركيبية متوسطة أو بعيدة ترسمها في مطبخها المبني على الغموض، ويكون في غياهب الظلمات، فلا أحد يعرف مكوناتها، طبعاً أقصد السياسة التي تغلف بالفضائل مع غموض أسطوري يتحكم بالوقائع، ومن خلاله يدير واقعه الراهن.
هل يوجد ارتقاء سياسي يراهن عليه في التعامل مع أي واقع أزمة بسيطة أم عنيفة؟ حروب انتقال سياسي ضمن الدول والأحزاب أو خارجها، لن أتوغل كثيراً، لأنني راغب في السير على الضفاف، لأن سائر المراجع التي تستند إلى قوة السياسة تشير إلى الذهاب بالباحثين عنها إلى ما لا يحمد عقباه، فالسياسة في المختصر صراع نفوذ يدعو إلى الحوار الظاهري، وتدعم القوي وتُخضع الضعيف، مصالحها العليا فوق كل اعتبار، تتظاهر بالتريث والانتظار، أحياناً تلبس القتامة، ونجدها في أوقات سهلة، لكن أكثرها عصي في آن.
للأسف إن منظومة الأمة العربية في أقطارها مازال سوادها يعتبر ويعتمد أن التفسير المعتمد لمفاهيمها يرتكز على التريث والانتظار، وأقصى طموحاته في اللحظات المصيرية أن يأتيه الحل من العوالم الأخرى التي مازال يعتمدها كأُمٍّ رؤوم، لأنه يجيد الحروب والقنص وثقافة الغنائم والانقلاب المؤخر لا المطور، وفي الوقت ذاته يأخذ من اللغات السياسية التي نشهد من خلالها المبالغات الهائلة ذات القواعد والأساليب القديمة، إضافة إلى بعض المقترضات الحداثوية، لذلك نجدهم يمتلكون سلفية سياسية تحمي نفسها بنفاق ساستها ومراوغاتهم المؤسسة في أعماق التاريخ، تلبس متى شاءت الحديث الفاتن، أو تعود لهمجيتها عندما تسوء ظروفها، أو يبدأ الهجوم عليها الجميع، وكما هو الحال عند مفسري الأديان، هذه التي لا تقدر على التخلي عن سلفيتها الدينية، لذلك هو الحال في السياسة التي لا تستطيع إفناء سلفيتها السياسية، لأنها تحتاجها بين الفينة والأخرى، وهذا لا ينطبق على البعض، إنما على سواد الساسة وأينما وجدوا، فالذين أسسوا للسياسة مازالوا مسكونين في داخلها، كما الذين أسسوا للأديان، لأن التخلي عنهم يعني نسف الفكرتين السياسية والدينية.
أفليست العودة إلى الأفكار القديمة شكلاً من أشكال السلفية السياسية؟ أين الإبداع في السياسة؟ لقد بتنا نشهد مبالغات في السياسة ومحاولات فرض وألفاظ وأساليب قديمة في زمننا الحديث؛ الحروب، الغزو، اغتصاب الحقوق، الاعتداء على الحريات الشخصية، ولو ألقينا نظرة فاحصة على المجال السياسي العالمي لألفيناه قائماً على موزاييك من الأحزاب التي تحمل أيديولوجيات ماضوية، على الرغم من الخيبات التي تشهدها هذا الأيديولوجيات التي تدعوها لتطوير سياساتها، وبشكل خاص باتجاه الإنسانية، لا من خلال التنازع على الإنسان وتحويله إلى أداة تخوض بها السلفية السياسية معاركها على أهمية نظرياتها التاريخية والمستحدثة، التي لم تستطع الخروج من عباءتها.