تقول نظريات الفيزياء، إن الضغط يولد الانفجار، ويقول علم الطب و«الداية» إن ولادة الجنين يسبقها آلام، وتسمى علمياً آلام المخاض، وفي إسقاط كلا المقولتين على ما تشهده المنطقة من أوكرانيا إلى اليمن مروراً بسورية وإيران ولبنان، ثمة سؤال مشروع، في أي خانة يمكن وضع تلك الأحداث، في سياق «الانفراج أم الانفجار»، في نظرية الفيزياء وذهاب الأمور إلى الانفجار والمواجهة بين القوى المتصارعة، أم في خانة نظرية الطب الإيجابية، وبأن جميع التوترات في المنطقة ليست سوى آلام مخاض ما قبل الانفراج؟
في غالب الأحيان، وقبيل أي لقاء سياسي بين طرفين متنازعين أو مختلفين في وجهات النظر والمواقف في مكان ما، تعمل الماكينة العسكرية لكلا الطرفين على تصعيد الأمور أو تسخينها ميدانياً، بهدف منح كل طرف أوراق قوة سياسية على طاولة الحوار أو المفاوضات، فتتقاطع أجنداتهم في مكان وتختلف في مكان آخر وفقاً لحجم المقاربة التي تحصل إزاء تحقيق مصالح كل منهما هنا أو هناك، واحترامهما للخطوط الحمراء التي وضعاها مسبقاً على تخوم خطوط التماس المشتركة.
إحدى تلك اللقاءات والأهم دائماً بالنسبة لدول منطقتنا حالياً، لقاءات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن، والتي من المقرر أن تعقد بعد ساعات من كتابتي لكلماتي هذه، هذا اللقاء سبقه ومثل كل لقاء بين رئيس روسي ونظيره الأميركي، تصعيد في الملف الأبرز على طاولة مباحثات الرئيسين، ملف أوكرانيا وميادين المواجهة الصامتة بينهما على جبهتها السياسية، والتي شهدت قصفاً سياسياً واتهامات غربية- أميركية للجانب الروسي بالسعي لما سموه نية لاحتلال ذاك البلد، الذي اتخذه الغرب وأميركا «مسمار جحا» وذريعة لشن عدوان على الجانب الروسي، عدوان أقله سياسي حتى الآن، من خلال ادعاء الاستخبارات الأميركية أن موسكو تحشد نحو 175 ألف جندي في 4 مواقع في المناطق القريبة من أوكرانيا لشن هجوم على كييف.
من المؤكد أن هناك زحمة في ملفات النقاش على طاولة بوتين – بايدن، إلا أنه من المؤكد حضور الورقة السورية من بين تلك الأوراق، ورقة تحمل وحسب الكثير من المعطيات السياسية والميدانية جوانب إيجابية، وبوادر ذهاب الطرفين نحو اتفاق ما بما يخص محاربة الإرهاب فيها، وتهديدات النظام التركي بشن عدوان جديد على مناطق سورية، وخاصة تلك المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية»، وصولاً إلى المساعدات العابرة للحدود، وهذا ما أكده تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأسبوع الماضي أن هناك مجالات يمكنهما العمل فيها معاً، على الرغم من التوترات بينهما، سواء في الميدان السوري أو ميادين أخرى.
سرعان ما ستتكشف نتائج لقاء الرئيسين، إلا أنه من المؤكد لن يكون الرئيس الأميركي صافي الذهن في حضوره في مواجهة بوتين، فالأوراق الكثيرة التي كان يمسك بها عالمياً، بدأت بالتساقط من الحقيبة الأميركية، من إيران التي تضغط نووياً بقوة، عبر تمسكها بحقها في رفع الحظر الجائر عنها، وضرورة حصولها على ضمانات بما يخص الاتفاق النووي، إلى زيارة بوتين للهند والتقاء الطرفين بأمور عدة من وحدة واستقلال ووحدة سورية، إلى توقيع عدة اتفاقات أبرزها التشاركية في الصناعة العسكرية، إلى اليمن وإنجازات الجيش واللجان الشعبية اليمنية في أرض المواجهة ضد التحالف السعودي الأميركي، وكل ذلك قد يقلب الموازين لمصلحة الجانب الروسي، والضغط باتجاه إجبار الأميركي على الموافقة للالتقاء في نقاط عدة، ولو بشكل مؤقت، بهدف تبريد العديد من الجبهات الساخنة كما في أوكرانيا وتهديد الناتو.
في ظل المتغيرات الحادة في طبيعة العلاقات الدولية، وانتفاء القطب الأوحد عالمياً، والذي شغلته أميركا لسنوات طوال عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وملامح ولادة حقبة جديدة في تلك العلاقات تشي بتعددية الأقطاب، فإنه يمكن القول إن أميركا ذاهبة إلى الوهم بإمكانية الحصول على صيد ثمين وكبير من مياه أوكرانيا الضحلة، أو من مستنقع سورية الذي تسعى جاهدة للخروج منه، بانتظار اللحظة المناسبة للإقدام على ذلك، وبطريقة تحفظ فيها ماء وجهها بخلاف ما حصل في أفغانستان.
في ظل الأجواء المتلبدة في سماء المنطقة، فإن الإدارة الأميركية تدرك، أو يجب أن تدرك، أهمية الاستثمار في الرسائل الدبلوماسية لحل أزمات المنطقة، وخاصة إذا ما كان البديل عنها رسائل بالنار، حيث لن يكون بمقدورها رد الجواب على كل «رسالة صاروخية» يتم وضعها في بريد قاعدة عسكرية لها في سورية، أو أخرى في العراق، وهو ما ظهر جلياً في سلسلة الأعمال التي استهدفت قاعدتها في حقل «كونيكو» شرق سورية، وما تلقته بالأمس من ردة فعل على أعمالها العدوانية في الحسكة عبر الهجوم بعبوتين ناسفتين استهدف رتلاً عسكرياً لقواتها المحتلة في منطقة اليعربية، لتكون القصة في النهاية عبارة عن رسائل وفرص، فهل يقرأ الأميركي الرسائل التي ترد إلى بريده وهل يستثمر الفرص للوصول إلى نتيجة تختلف عن نتيجة أفغانستان؟