سنوات الحرب تمضي وتأكل أرواحنا وأرزاقنا وما تبقى من أحلامنا، تحاول أن تنقلنا من ضفة إلى أخرى، وأن تعيدنا القهقرى.. لا ينكر إلا مكابر أن ما تمرّ به سورية قد فعل فعله، ولا يمكننا أن ندّعي أننا نحن كما نحن! فكم من حبيب فقدنا؟! وكم من صديق غادرنا؟! وكم من حزن حصدنا؟! وكم من خيبة لفتنا بجناحها فأعمت العين وأدمت الفؤاد؟! ليس من حق أحد أن يغني لمجد غابر ويتجاوز ما حدث ويحدث، وليس من حق واحد أن يتحدث عن الغد المأمول متجاوزاً الواقع الراهن..
في غمرة ما نحياه تعود الذاكرة إلى الشام التي كانت، مهرجاناتها وصقر الرشود وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز، إلى أسامة أنور عكاشة وكاترين دونوف..
أيام كانت مختلفة، حياة تضج بالحياة، هؤلاء جميعاً كانوا يدرجون على أرصفة الشام، ينتظرون أن يدعوا إلى مهرجاناتها في المسرح والسينما، في أروقة الصالات، وفي أبهاء الفنادق كانوا وروداً منثورة في كل مكان، الابتسامات تعلو الأمكنة التي تستقبلهم، وتواجه الناس الذين أحبوهم وجاؤوا لمشاهدتهم و لقائهم.. بالأمس تحديداً ساقتني رحلتي اليومية سيراً في شوارع الشام فلا الصالات صالات، ولا الرواد رواد، لا أنوار تضاء، ومات أحمد زكي، ومات محمود عبد العزيز، وغادرنا أسامة أنور عكاشة، وكانت زيارته للشام آخر سفرة له خارج مصر قبل الرحيل!
هل غادر هؤلاء لأن الزمن تغير؟
هل أقفلت دور السينما لأنهم غادروا؟
ماذا حلّ بالمكان؟ كم من الوقت سننتظر حتى تبدأ دورة جديدة؟ هل سنكون شهوداً على يوم آخر يحمل الجمال في الشام؟
مصطفى العقاد يتحدث عن سلسلة هالوين وصقر الرشود يروي سيرته مع المسرح وسعد الله ونوس يروي (الفيل يا ملك الزمان) لست ممن يحنّون للماضي، فالحياة تبدأ غداً، ولكنني أتوق لغد يسعدنا، أو يسعد الجيل القادم بعدنا، فنحن أخذنا من الحياة قسوتها وزهوها، ونأمل للجيل القادم أن يأخذ شيئاً من الفرح.
في الشام رأينا فيلم الدراجة عن غيفارا فأحببناه وحلمنا بحياة أجمل تنتظر الجيل القادم..!
في الشام رأينا مارلون براندو و(القيامة الآن) وكان الظن كل الظن بأن القيامات انتهت، وأن صورة الحرب الأميركية في فيتنام أنهت زمناً ما، ولم ندرك أن طول الفيلم الذي منع المشاهد والاستراحة كان يعدّ لنا الفيلم الأطوال.
مصادفة غريبة وأنا أقلب الأوراق عثرت على بطاقة باص نقل داخلي قديمة عليها رقم هاتف الشاعر الكبير مظفر النواب بخط يده عندما كان مقيماً في دمشق، وقبل الحرب التقيته آخر مرة، كان تعباً وذابلاً، شارداً بنظره، ذاهلاً عن كل شيء، لم يتحدث يومها مظفر النواب كثيراً.. جسده منهك، روحه متعبة، وبعدها غادر دمشق التي أعطته أجمل أيامه.. وغادر عبد الوهاب البياتي ليرقد إلى جوار ابن عربي، وغادر من قبل أبو الفرات محمد مهدي الجواهري ليجاور الدكتور حسين مروة..
كل هؤلاء كانوا في الشام على أرصفتها، على منابرها ينشدون حبها، يتبارون للسير في طرقاتها كما فعل عبد الحليم حافظ من مسرح المعرض إلى السوق العتيق إلى مطعم أبو رياح!
لكِ الله يا شام.. ليس حنيناً للماضي، بل إنه الحنين للحياة والضجيج والحب.. الحنين للشام التي كانت، وهناك من يقول بأنها ستعود، الحنين إلى إنسان كان، وحين شعر بأن الشام تحول تاريخها، وصارت هدفاً للعدوان والخذلان كلّ بصره، وتثاقل جسده، وغادرها وهي التي حضنته حتى لا يفجع بها..!
يا للزمن وشروخه.. وصوت مظفر النواب في جلسات قليلة جلستها معه يصدح، وهو يلعن ويشتم، ويحب ويطرب، ثم يغادر ساهم الطرف شارداً لا يلوي على شيء، وكأنه يترك روحه وعمره الذي أمضاه في شوارع دمشق.. في آخر مهرجان عقد للسينما بدمشق حضر أسامة أنور عكاشة، كان مريضاً ومتعباً، وطلب زيارة دمشق القديمة، ذهبنا معاً، لم تدم الزيارة طويلاً، وفي اليوم الثاني غادر إلى مصر بسبب مرضه، كانت آخر زيارة لدمشق، وآخر مغادرة له خارج مصر..
سافر أسامة إلى عالمه، وسافر الآخرون، وختموا زمناً جميلاً بانتظار الزمن الأكثر جمالاً، فلا كان ولا كانت، وضاعت الأمنيات وتلاشت، وجاءت العجاف، ولم تأكل السّمان اللواتي سبقنها وحسب بل التهمت مستقبل أطفالنا، وحطمت أخشاب مكتباتهم وألعابهم، وحرمتهم عرائس السكر، ومنعتهم من اللعب على الإسفلت الأسود..
لم يعد الطفل قادراً على أن يرسم بالطبشور على الإسفلت الأسود ليلهو، لأن العربات المجنزرة لم تبق له أي لون يعبث به..!
في ذلك اليوم كان مظفر النواب صامتاً
غادر صامتاً..
والمكان لفّه الصمت بعده
وفيروز خمد صوتها.. ولم نعد نسمع صداها على بردى:
شآم أهلوك أحبابي