القدود الحلبية إلى قائمة التراث الإنساني في اليونسكو 2021 … بين الموشح والطقطوقة والقصيدة أبدع سلاطين النغم في حلب فكانت القدود
| إسماعيل مروة
إذا ذُكر النغم فحلب قبلته، وأولى محطاته، وسيدة مدائنه، وحافظة أصالته، ومبدعة كلماته، وصائغة ألحانه وتلاوينه، وشاحذة أصواته وحناجره، وإن كان المبدع الراحل صباح فخري صنّاجة العرب، وحامل التراث الحلبي في حنجرته وروحه وشدوه، فإنه لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، وهو الذي نهل من نقاء مئذنة، ومن أذان مقدس، ومن أساتذة أجلاء، وفي مدينة التجلي في الروح والنغم، وللقد الحلبي رحلة طويلة كانت مغرقة في القِدم وستبقى متواصلة في أجيال لاحقة تعزز وجود مدرسة النغم والأصالة ما دامت الأذن تسمع وتطرب، لذا حُقّ لحلب أن تطوّب هذا الفن الأصيل باسمها في أكبر منتديات العالم (اليونسكو) ومهما كان الأمر فإن حلب تبقى بقلعتها التاريخية وقلعتها الفنية سيدة على المدى، أخذت روعتها من ذاتها.
حلب والنغم
يروون الكثير عن حلب وذائقتها وتذوقها للموسيقا والنغم، وقد اجتذبت حلب أهم مبدعي الموسيقا والغناء، فها هم يتحدثون عن عبد الوهاب والغناء في حلب، وعن الشيخ أمين الجندي المتصوف المشهور وحبه لحلب، وأخذه عنها الكثير، وها هو عبد الحليم حافظ عندما أراد تجديد أغنية رائعة يسبقها بقوله (مداح القمر، مأخوذة من الفولكلور الحلبي السوري القديم)، فالعالم كله والفنانون يعترفون لحلب بنغمها وأصالتها، وما من فراغ كان ذلك التلاقي بين سيد درويش الموسيقا والخالد ومدينة حلب ونغمها وقدودها وموشحاتها، والإشارات التي نقف عندها في الكتب والدراسات تعطينا فرصة للفهم والتحليل، فالقدود الحلبية لم تكن فناً غنائياً عند الحلبيين، بل كان حياة الحلبيين اليومية، فمن الطقوس إلى الأذان، إلى الموالد الدينية، إلى الحلقات الصوفية التي شكلت أهم رافد من روافد النغم والغناء في حلب الشهباء، وقد أفرد ابن حلب الأستاذ الباحث عبد الفتاح قلعه جي جهوداً طيبة وطويلة من أجل تراث حلب، والتراث الغنائي والقدود على وجه الخصوص.
ذاكرة حلب
يشير الباحثون إلى أن القدود الحلبية هي أكثر أنواع الفنون التي استطاعت أن تحافظ على إرثها وهويتها العربية موسيقياً، لأنها لم تكن معزولة، بل كانت الذاكرة الشعبية الطبيعية والبسيطة لحلب والحلبيين، فهي معهم في مساجدهم وموالدهم ومسارحهم وسهراتهم الطربية، وذلك بكل التلاوين التي عرفها القد، بل يتداخل وهو الحلبي مع الموشح الأندلسي، والقصيدة الشعرية، والأغنية الشعبية، لتصوغ منه المدينة الغافية على وتر النغم قدّاً يردده المغنون والمنتمون على مرّ الأجيال، وما كان للقدود أن تستمر في غير حلب، لأنها وحدها التي منحتها ذاكرة وقّادة وحملتها إلى كل أصقاع العالم.
ويربط عيسى فياض تنامي الحركة الفنية مع صعود الوعي القومي والمرحلة النهضوية التي عملت على التخلص من الهيمنة الثقافية التركية، ويبني الباحث رأيه هذا على نشوء القدود، إذ من العسير تحديد تاريخ مؤكد لنشأتها.
الموشح والقد
اختلف الدارسون ونقاد الأدب عند الحديث عن الموشح، وهل هو أندلسي أم مشرقي ودون النظر إلى هذا الخلاف، فإن مدينة حلب حفظت للموشح رونقه وطورته وقدمته.
ويرى عدد من الباحثين الروابط القوية بين عدد من الفنون الغنائية (الموشحات، الأناشيد الدينية، الموالد، الأغاني الشعبية والتراثية..
والطريف أنهم يصفون الأغنيات التراثية بالمتدنية وهذا خلاف ما نجده اليوم من سموها ومكانتها، وإن أردنا أن نفهم من هذا شيئاً، فإننا نستخلص أن حلب وأصالتها جعلت هذه الفنون الشعبية في أرقى مراتب الفن وخاصة إن علمنا أن بعض الموشحات فيها ألفاظ أعجمية.
القد والمقاس
بعض الكاتبين رأوا أن القدّ جاء من جمال المرأة، ولكن النقاد والعارفين بالشعر عرفوا القدود بأنها منظومات غنائية أنشئت على أعاريض وألحان دينية أو مدنية، بمعنى أنها بنيت على قدٍّ مماثل أو مشابه، لتتم الاستفادة من شيوع اللحن وحضوره.. ونقل عن الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي وهو مؤرخ حلب والعارف بها وبالقدود قوله: كلمة «قدّ» تعني المقاس فالألحان الدينية كانت تخرج من الزوايا الصوفية لتبحث عن كلمات فيها الغزل وفيها القضايا الاجتماعية فيبقى اللحن الذي كان أساساً أنشودة دينية، وتصوغ وفقه كلمات تدخل في الحياة اليومية، فهذه على قدّ تلك، ومن هنا نشأ القدّ.. أما من الناحية الموسيقية فالقد ليس قالباً موسيقياً بحد ذاته، لكنه يأخذ شكل القالب الأساسي الذي نشأ منه، فإن كان بالأصل موشحاً بقي كذلك، وإن كان طقطوقة أو أغنية بقي كذلك أيضاً، من هنا نرى أن القدود اشتهرت بأسماء مؤلفيها وليس بأسماء ملحنيها..
وهذا ما سبب إطلاق كلمة (من الفولكلور) على أغلب القدود والموشحات، ولن نجد اسماً لملحن قام بتلحينها، فهي خارجة من مكان ما، وتم القياس على قدّها.
ماذا قدمت حلب له؟
يذكر الباحث محمد قجه: «خلال القرون الخمسة الماضية كان هذا الفن يتطور في حلب، ويتفاعل مع عناصر البيئة المحلية، وأصبح للموشح الحلبي صورته الفنية المستقلة بالإيقاع والضرب والأداء والكلمة، وتجاوزت ضروب الموشح الحلبي بفروعها وتفاصيلها المئة، وأصبح لها قواعدها وأسسها وتقاليدها، وبلغ هذا التطور ذروته في القرن الماضي نصاً ولحناً وغناء»، ومن هذا القول نعرف أن حلب قدّمت الكثير للقدود، وكأنها تستخرجها من جديد بحلة كبيرة ولائقة وملونة دينياً واجتماعياً وموسيقياً.
حلب والقدود علمياً
على الرغم من الإشارات الكثيرة إلى اجتماعية هذه القدود، وخروجها من التكايا الصوفية، ومن أنها نسجت كلاماً على أوزان دينية، إلا أن حلب الشهباء كانت مدرسة للفن الموسيقي القائم على أسس علمية فنية خالصة، ومن أساتذتها الأوائل الكبار الشيخ علي الدرويش، وهو من أهم أساتذة الفن والقدود على مساحة الوطن العربي، وعمل على التعليم الموسيقي في سورية ومصر والعراق وتونس، واستلهم التراث الأندلسي ومنهم عمر البطش، محمد خيري، صباح فخري، صبري المدلل، داود حسني، بكري الكردي، عبد القادر حجار، وقد ظهر التأثر والتأثير بين القدود والموشحات وأبي خليل القباني وسيد درويش وسواهم.
ولم يقتصر دور حلب على القد وتطويره وتطويعه ودراسته، بل امتد إلى الموشح والطقطوقة والموال الذي طوروه من السبعاوي إلى التسعاوي إلى التنعشري.
حلب سيدة النغم، حاضرة الطرب، سيدة الموسيقا وتطويرها، الحريصة على الأصالة والارتقاء به وجعله هوية، ومن هنا استحقت حلب أن تكون المدينة المؤصِّلة والمؤصَّلة في القدود والفن من أهم مراكز الثقافة في العالم.