دمشق مدينة الظرفاء … أبو سليمان الجيرودي.. في السروجية يمازحه أصدقاؤه في خياطة ثياب الناس!
أنس تللو :
رجلٌ قصير القامة، نحيل الجسم، ذو وجه باسم، وروح مرحة، ولسان معين لا ينضب من الحكايات الضاحكة التي يضيف عليها من لطفه وظرفه، رحمه الله.
كان أبو سليمان الجيرودي خياطاً لسروج الخيل؛ لديه دكان في سوق السروجية الذي يقع بجوار قلعة دمشق، وهو أحد الظرفاء المحترمين في دمشق القديمة يحبه ويحترمه الناس.
ومن مآثره العجيبة أنه كان يبدأ بتلاوة النكات والنوادر دراكاً واحدة تلو الأخرى دون فاصل، بصوت هادئ، ويوزع نظراته واهتمامه على جميع المستمعين دون أن يضحك إطلاقاً، وكأنه يروي لهم قصصاً عادية لا علاقة لها بالضحك في حين أن بعضهم يكاد يصاب بالإغماء لكثرة الضحك، وتطول السهرة وتمتد حتى منتصف الليل وأبو سليمان لا يزال قادراً على الحديث والكلام وإلقاء الملح مدة طويلة دون أن يتلكأ أو يشعر بالتعب… لذلك فقد لقَّبه الناس آنذاك بـ«شيخ النكيتة»، فإذا وقف ليروي حكاية ضاحكة اشرأبت إليه الأعناق، وهفت إليه القلوب، وغدوا كلهم ينتظرون ما يسمى بالأفلة للقصة التي يرويها حتى يضحكوا من أعماق قلوبهم.
ذات يوم قدِم إلى دمشق رجل يحمل قطعة جوخ وأخذ يبحث عن خياط ماهر ليخيطها؛ فأراد أحدهم أن يتحرش بأبي سليمان فدله على دكانه بعد أن أكد له أنه خياط بارع.
دخل الرجل الدكان ودفع بقطعة الجوخ إلى أبي سليمان وطلب منه أن يأخذ منه قياسه جيداً؛ أدرك أبو سليمان اللعبة التي أراد أحد أصدقائه أن يوقعه فيها، وأراد أن يرد عليه، فتناول متر القياس وأخذ يمرره على ظهر الرجل وحول ذراعيه وساقيه كأنه يقيس لحصان.
وقتها انتبه الرجل مدهوشاً وصاح بأبي سليمان غاضباً بالعامية:
شو شايفني قدامك بغل، حتى تأخذ القياس بهالشكل.
فأجابه الجيرودي:
أولم تلاحظ حضرتك أني خياط للحيوانات.
…
حدثني ابن العم عدنان تللو الرحالة العربي رحمه اللـه أن أحد الأشخاص قد دعا أبا سليمان الجيرودي إلى وليمة في شهر رمضان، وآن أوان صلاة المغرب، وكان أبو سليمان (إماماً)… وقد اقتدى به رجل واحد فقط وهو عملاق ضخم شره جداً وأكول، وحين بدأت الصلاة بدأ صاحب الدعوة بإدخال أطباق الطعام إلى الغرفة (باتفاق سابق مع أبي سليمان)، وبدأت روائح الطعام الزكية تفوح ملء الغرفة لتزيد من شره ذلك الرجل العملاق، وتضاعِف من رغبته النهمة لتناول الطعام ؛ فما كان من أبي سليمان إلا أن استهل الصلاة بآية طويلة مع التنغيم… ثم أخذ يتباطأ في الركوع والسجود فيسجد سجود العارفين العاشقين الذين يتمتعون بالتسبيح والتحميد وينسون أنفسهم ويتجاهلون نداء بطونهم، فيطيل السجود ويتوقف عن الحركة وكأنه قد غاص في بحر لجي عميق من التأوه والتأمل.
الروائح الزكية تفوح… وأبو سليمان يغوص ويدمدم بكلمات التسبيح والتحميد، وذاك العملاق يتوجع ويدمدم بكلمات الشتائم والتبغيض… وتأخذه حالة من الغضب المبطن تجعله لا يتمكن من كظم غيظه فينفِّث عن كربه بزفرات حرة تأتي من قلب وجيع، والمستمع لهما آنذاك لا يتمكن من التمييز بين إيمان عميق وبين باطل سحيق، ثم ينتهي أبو سليمان من السجود الطويل فيرفع رأسه وذاك يقلده… ثم يقفان… وتصدر عن أبي سليمان أصوات التحميد والتكبير في حين تخرج من معدة الرجل العملاق أصوات فرقعة المعدة الجائعة، لأنه لم يعد يستطيع الوقوف من فرط الجوع والتعب.
وبدأت الركعة الثانية وعاد أبو سليمان إلى التنغيم والتطويل؛ حتى إذا ما قال أبو سليمان: ولا الضالين آمين… صاح الرجل بصوت ملؤه الغيظ والحنق؛ صوتٍ يرتجف من فرط الغضب الصامت والبغض الدفين: آااااامييييين.
ثم بعد أن انتهت الفاتحة، اختار أبو سليمان سورة طويلة فقال: (عم يتساءلون)… هنا طفح الكيل في نفس الرجل العملاق، فتراجع خطوة إلى الوراء وصاح بأبي سليمان:
– العمى يعمي عيونك العمى.
ثم انهال على مؤخرة رأس أبي سليمان بضربه قوية طرحته أرضاً… وهو يسب ويلعن ويشتم ويقول إنه قد فقد وضوءه من الركعة الأولى… لم يستطع أبو سليمان أن يتمالك نفسه من فرط الضحك الشديد فقام بصعوبة لأنه لم يعد يقوى على حمل نفسه لشدة ما ضحك، وقال للرجل العملاق: وهل تظن أنني أفضل منك حالاً… إنني أصلاً أصلي بك إماماً بلا وضوء.
وحدثني عدنان تللو أيضاً أنا أبا سليمان الجيرودي كان كلما رآه في الثلاثينيات من القرن الماضي كان يقول له: قل لأبيك السيد حسني تللو إن الطقم الذي أخيطه له قد أوشك على الانتهاء… وكان عدنان تللو لا يعرف ماذا يقصد الجيرودي بذلك، فلما كبُر وعرف أن أبا سليمان كان خياطاً لسروج الخيل عاتبه على هذا القول، فيقول له الجيرودي: إذاً بما أنك كبرت فقد أصبحت جاهزاً للعمل والتحمل، فلابد من أهديك أنت أيضاً طقماً يليق بمقامك.