إذا كان دخلك 1000 وحدة نقدية شهرياً، وبرامجك المستقبلية مبنية على هذا المبلغ، وارتفعت الأسعار نتيجة متغيرات خارجة عن إرادتك، مثل جائحة أو حروب، نجم عنها ارتفاع معدلات تضخم قياسية، فمن المؤكد أنه بعد تغيير سلوكك الاستهلاكي والشرائي، ستعاني من أوجاع التضخم المؤلمة، وعواقب هذه الأزمة طالت العالم بأسره عندما بدأ الاقتصاد العالمي يتجاوز أزمة كوفيد- 19، ومع أواخر عام 2021 أصبحت إدارة مخاطر التضخم أصعب في الدول النامية منها في الاقتصادات المتقدمة.
ثم جاءت الحرب الأوكرانية لتشهد أسعار المواد الغذائية والوقود ارتفاعاً حاداً، لأن روسيا وأوكرانيا مصدران رئيسان لعديد من السلع الأساسية بما في ذلك الغاز والنفط والفحم والأسمدة والقمح والذرة والزيوت النباتية.
ويعتمد عديد من الاقتصادات في أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا، اعتماداً شبه كامل على روسيا وأوكرانيا للحصول على وارداتها من القمح.
وفيما يتعلق بالدول الأقل دخلاً، قد يؤدي اضطراب الإمدادات، إضافة إلى ارتفاع الأسعار إلى زيادة التعرض لأوجاع التضخم كخطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي.
وتفاقم الضغوط التي تنجم عن التضخم على نطاق واسع ضربت جميع دول العالم، واستتبعه بالضرورة رفع أسعار الفائدة، وأثر في قيمة الاحتياطي النقدي الأجنبي لجميع الدول ويشكل ارتفاع معدلات التضخم تحدياً كبيراً لكثير من الأسر في جميع أنحاء العالم، فالأسعار المرتفعة قد تؤدي إلى تآكل قيمة الأجور والمدخرات الحقيقية، ما يجعل الأسر أكثر فقراً.
التضخم يزيد من اللا مساواة الاقتصادية داخل المجتمعات، ويضر بالعدالة الاجتماعية مثلاً، فمع التضخم ارتفعت قيمة الأصول الثابتة مثل الوحدات العقارية التي يمتلكها الأفراد الأكثر ثراء، لكن من جهة أخرى، تضغط معدلات التضخم على أسعار الغذاء والوقود والتي تتأثر بها الأسر الأكثر فقراً لأن تأثير التضخم في دخل الأسر الأفقر أو متوسطة الدخل ومدخراتها يكون أشد مقارنة بما يلحق بالأسر الثرية.
من جانب آخر بدأت الولايات المتحدة الأميركية تعاني مباشرة من آثار الأزمة الأوكرانية والعقوبات التي فرضتها على روسيا بارتفاع معدل التضخم ليبلغ 7.9 في المئة في شباط الماضي، أعلى مستوى منذ 1982، حيث يكافح الموظفون لجعل أجورهم تتلاءم مع الأسعار الاستهلاكية، ناهيك عن ارتفاع أسعار الطاقة ما اضطرهم للجوء للاحتياطي الاستراتيجي من النفط، كما أن التضخم يسير بمعدلات تفوق الأعوام العشرة الماضية في كل من بريطانيا التي وصل فيها إلى 4.2 في المئة، والاتحاد الأوروبي إلى 4.4 في المئة، وبدأ المستهلكون يكتوون بنار الأسعار المرتفعة.
من المتوقع تفاقم وضع التضخم العام الجاري، يؤدي هذا إلى عواقب سلبية، ولاسيما على الأسر في الدول ذات الدخل المنخفض التي يستحوذ فيها الغذاء على نحو 40 في المئة من الإنفاق الاستهلاكي، وبينما كانت بعض دول شمال إفريقيا، والشرق الأوسط تتعافى تدريجياً من الجائحة، جاءت الأزمة الأوكرانية لتهدد الكثير من دول المنطقة وتواجه آثارا موجعة فادحة من ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وتراجع السياحة، والصعوبة المحتملة في الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية.
يثير ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات قياسية المخاوف بشكل كبير في منطقة تستورد نحو 85 في المئة من إمداداتها من هذه السلعة التي يأتي ثلثها إما من روسيا أو أوكرانيا، ومن المرجح أن يؤدي ارتفاع أسعار السلع الأولية، إلى تعجيل وتيرة التضخم في أميركا اللاتينية والكاريبي، ليسجل التضخم معدلاً سنوياً يبلغ في المتوسط 8 في المئة، وبالنسبة للصين من المتوقع أن تكون الآثار المباشرة أصغر نظراً لدفعة التحفيز المالي التي ستدعم هدف النمو لهذا العام وهو 5.5 في المئة، على حين أن مشتريات روسيا من الصادرات الصينية قليلة نسبياً.
ومع هذا، فارتفاع أسعار السلع الأولية وضعف الطلب في كبرى أسواق التصدير يضيفان إلى التحديات التي تواجهها للمعالجة أنه ينبغي لصناع السياسات أن يضغطوا على المكابح النقدية والمالية من خلال خفض الإنفاق ورفع أسعار الفائدة، أي بالنهج التقليدي في محاربة التضخم، أو يمكنهم أن يتحركوا في الاتجاه المعاكس من خلال خفض أسعار الفائدة، أو أن يحاولوا التدخل بشكل أكثر مباشرة من خلال فرض الضوابط على الأسعار.
ويمكن لواضعي السياسات إما السماح لعملاتهم بالانخفاض؛ ما قد يؤدي إلى زيادة التضخم، وإما رفع أسعار الفائدة؛ ما قد يؤثر سلباً في النمو والقدرة على تحمل الديون، وسيكون كلا النوعين من الصدمات التضخمية اختباراً قاسياً لصانعي السياسة النقدية في الدول الفقيرة.
يرى بعض الخبراء أن «التضخم أحد الآليات التي تستخدمها بعض الدول لتصدير الأزمات ويبدو أننا في زمن تصدير الأزمات، للاستفادة منها على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي.
إن تسارع التضخم، إلى جانب تدهور آفاق النمو والتوظيف، سيعرض الاقتصادات النامية لنوع من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
ويرى بعض المحللين الاقتصاديين أنه من المرجح أن يظل التضخم مرتفعاً في عام 2022 على مستوى الدول المتقدمة والنامية، وربما ينحسر في 2023.
الأوجاع المؤلمة للتضخم ستزيد من المصاعب التي تواجه صناع السياسات لتحقيق التوازن بين احتواء التضخم والتخفيف من أوجاعه في ظل الجائحة والحرب الأوكرانية؛ فهذه الأزمات تنهش جيوب الفقراء وتسرق الأمل من عيون الأطفال في العالم.