أشعر الآن بإنهاك شديد ولذلك سأغفو … هزوان الوز يروي تاريخ المزة البعيد والقريب من ذاكرة المحبة والانتماء
| إسماعيل مروة
«لا أعرف من كتبَ من، أأنا من كتب هذه الرواية؟ أم الرواية هي التي كتبتني؟ أم إن المزة هي التي كتبت كلينا؟ أم إن ثلاثتنا، أناو الرواية والمزة، صبار آخر في كتاب الزمن، صبار لما يزل، وسيبقى، شاهداً على زمن كان، وزمن سيكون».
بهذه الكلمات يختم الروائي الدكتور هزوان الوز روايته الجديدة (زهرة الصبار) الصادرة عن دار الشعب بدمشق منذ أيام، ويقول الناشر «زهرة الصبار إضافة رفيعة إلى منجز مبدعها السردي، كما هي إضافة إلى المدونة السردية السورية التي ما تزال تعاند وطأة الحرب لتبقى على قيد الحياة، شأن المزة نفسها التي لم تستطع التحولات التي عصفت بها أن تسلبها شيئاً من يقينها بأنها كأمها دمشق خالدة ما كانت الحياة».
المزة والتاريخ والرواية
الصبار يعني دمشق، ويعني المزة تحديداً، وللصبار بالمعنى والشكل هذه المنطقة الآسرة والعريقة في دمشق بما يملك سكانها من أصالة وتنوع، وما يحمل تاريخها من عراقة وقدم، والروائي الوز تقدم إلى هذا الحي الذي يحمله في روحه ووجدانه وذكرياته ليؤرخ للحي والإنسان ودمشق، ويرصد التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية التي مرّت بدمشق من خلال المزة تحديداً، وذلك اعتماداً على سيرة أسرة من الطبقة المتوسطة حامل المجتمع في ذلك الوقت وفي كل وقت، ومع هذه الأسرة أسرة أخرى تنتمي إلى الطبقة ذاتها من خلال المهن التي حرص المؤلف على سردها في حديثه عن العلائق التي تربط الأسر فيما بينها، ولا تغيب شرائح المجتمع الأخرى الفقيرة والغنية التجارية والزراعية والصناعية والعسكرية عن التشريح الذي أراده المؤلف، فكان كما أشار بحق سيرة مؤلف، وسيرة مدينة، وسيرة حي، وربما كانت سيرة تاريخية للحي.. وربما كان مفاجئاً ما عرضت له (زهرة الصبار) من تقسيم طبقي واجتماعي داخل مدينة دمشق، قد لا يعرفه غير أبنائها، فأبناء دمشق داخل السور يرون المزاوية دونهم مرتبة، وهم من المزارعين، بل إن الوز في حواراته يأتي على ذكر هذه الخلافات بين فتحي وزوجته، فتحي الذي ينتمي إلى أسرة دمشقية داخل السور، وكان يرى أن زوجه من المزة أقل منه، وكان يعايرها لستر ضعفه.
وتستمر محاولات المؤلف مع شخصيته الأدبية المرموقة في تأكيد عراقة المزة من أسامة بن زيد ودحية الكلبي إلى الأمويين وصولاً إلى أبي مروان ودكانه الذي خرّج عدداً من المثقفين النموذجيين.
التكنيك وتضمين النص
أوراق غير مرقمة كتبها عن المزة وهي روايته زهرة الصبار توضع في حقيبة أخته المسافرة لحضور مؤتمر، تكتشفها في حقيبتها، تستفسر عنها منه ولا يعترف، وفي نهاية الرواية يعترف بأنه وضعها بنفسه لتكون القارئ، وهي تقرأ وتسرد وتسترجع لتكتمل الرواية كما وضعها، وكما تخاطبه بين كل فصل وفصل لتكتمل بذلك حكاية أسرة، وصراع امرأة ورجل، وسرد للعادات والتقاليد ما كان منها محمود العاقبة أو مرذول النظرة من المجتمع، ويحقق الكاتب معادلاً موضوعياً في سرده للأحداث إذ يقدم الإدانة أو الإشادة بالأسر والشخصيات بغض النظر عن بيئتها، ففي الشرائح الميسورة من هو وضيع يحرص على أن تتنازل زوجه عن مؤخرها وذهبها وهداياها، ومنها من يفعل عكس ذلك، وفي الأسر المتوسطة والفقيرة من يفعل هذين الأمرين أيضاً.
وعلى عادته في منجزه الروائي السابق يتابع هزوان الوز اعتماد التداخل النصي الذي يصل حدّ التداخل، فتتماهى الحدود، فلا نعرف إن كان النص له أم للمصدر القديم الذي أخذ منه، وهذه التقنية طورها الوز عن رواياته السابقة، وبعد أن كانت تأخذ حيزاً منفصلاً، وربما كتبت بلون مغاير، ففي زهر الصبار جاءت من داخل النص وهذا ما بدأ به روايته عن المزة وضبطها معتمداً على معجم البلدان لياقوت الحموي الذي يتحدث عن المزة قرية من قرى دمشق المحيطة بها، لينتهي المؤلف ببراعة إلى أنه من حيث النتيجة مع ضبطها بأي شكل، ومع معانيها المتعددة التي تتلاءم معها.
الحامل المجتمعي والوعي
«كيف يا وليد لم نكن ننتبه إلى ذلك الجهد الاستثنائي الذي كانت تبذله أمي في بناء الأسرة؟ عملها الذي لا تستطيع عشر نساء الآن احتمال نصفه؛ وتربيتنا، وتقديمها لأنفسنا عليها، لكأنه ما من شيء في الحياة كان يعنيها سوى أبي ونحن والبيت».
اعتمد الكاتب على الحامل الاجتماعي الحقيقي للمجتمع، وهو الطبقة المتوسطة في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وهذه الطبقة هي التي قدمت منطقة المزة وسيرة حي من خلال:
– أسرة متوسطة صاحبها مكافح مستور ميسور، قادر على أن يعلم أبناءه وبناته، وبناته يتقدمن في العلم والمجتمع، ولهن شخصيات متوازنة قادرة على النقاش واتخاذ المناسب في الظروف القاسية، ويظهر أثر الطبقة المتوسطة في تفاصيل بناء الشخصية، حيث لا تجتمع هذه الطبقة مع طبقة الأغنياء أو المتظاهرين به، ولا مع طبقة الفقراء الذين يعجزون عن فعل شيء، مع أن الفقراء آنذاك يلوذون بالطبقة المتوسطة، ويرتفعون في مستوى العيش، وقد يتحولون إلى طبقة متوسطة كما ذكر الروائي من بائعي الخضار على الكتف أو الدواب أو الطنابر أو الطرطيرة.
أصحاب المهن الذين يشكلون عماد الطبقة المتوسطة من الدكنجي إلى اللحام والنجار وسواهم.
وهم الذين يقدمون المثال في التفهم والنقاش مع محيطهم وأسرهم، فهم لا ترهقهم حاجياتهم أو أموالهم، وأزعم أن المكان الذي اختاره هو ملاذ الطبقة المتوسطة.
«الأمكنة كالبشر لكل منها هويته وما يميزه عن غيره، وإن لم تمتلك هذه الهوية كانت مجرد بيوت يجاور بعضها بعضاً، وبشر يتساكن بعضهم جوار بعض.. وهذا ما كنت أزداد يقيناً به كلما غصت في أعماق تاريخ المزة». هل كانت طبقة الصحابة الذين اختاروا المزة من المتوسطة أيضاً؟
ربما، وهذا ما جعل الوز يتنفس المكان وعبقه، ومع أنه ينتمي إلى الفكر الحديث إلا أنه مولع بهذه ا لجذور، ومتحدث ماهر عن المكان وروحه وتفاصيله موازناً بين المكان والإنسان.
«مزاوية حصلت على شهادة في الطب وصارت تظن نفسها الملكة فكتوريا».
يسترعي الانتباه هذا الصراع بين الطبقة الوسطى، وطبقة تظن نفسها وهي آيلة للزوال، وقد يدهش الوز في تفاصيل تلك العلاقة بين من يظنون أنفسهم الأصالة وسواهم من أطراف المدينة والحضارة، وللحق فقد كان الحوار قاسياً ومفاجئاً.
المزة والمدنية
«لقد قدّمت المزة إلى دمشق والأرياف المحيطة بها أجمل وأصلب ما منحته الطبيعة لأرضها من الجارة».
امتدادات المزة اليوم المسكونة لم تكن كذلك، وقلة هم الذين يعرفون ذلك ففيها المقالع التي تشرفت ببناء الأموي مرات، خاصة عند احتراقه، وفي الوقت نفسه يعود المزاوي من عمله ومقلعه وحقله ودكانه ليمارس طقوسه الاجتماعية.
«الملتقى الاجتماعي الأكثر حضوراً وأهمية في المزة كان جامعها الكبير، وكان إمام الجامع آنذاك الشيخ أبو حسن الذي كان كثير من رجال المزة وشبابها يهرعون لحضور مجلسه».
أفرد الكاتب الجامع بعنوان واهتمام لإيمانه بدور دور العبادة في المجتمع والحياة، وتأثير رجال الدين في هذا المجتمع، حين كان جامع المزة الكبير هو المتنفس الوحيد لأبناء المزة الذين شكل المسجد مصدر معلوماتهم وثقافتهم.
وفي رصده للمزة لم يقف الوز عند المزة قديماً حتى يتغنى ، بل شكل توثيقاً روائياً مهماً لهذا الحي الذي كتبه أو كان من كاتبه، وها هو يصل إلى تفاصيل نراها اليوم.
«المزة الآن مزّات» الأصل الذي يسمى الآن مزة الشيخ سعد والمزة جبل، والمزة فيلات غربية، والمزة فيلات شرقية، وبساتين المزة خلف مشفى الرازي، والمزة 86.. عندها صدرت قرارات استملاك بساتينها ووجد كثير من أهلها أنفسهم مضطرين إلى الهجرة إلى قرى وبلدات أخرى مجاورة».
في هذا المقطع وبعده يعالج الروائي مفهوم العشوائيات المحيطة بالمدينة ويناقش الشخصية الروائية التي يحاورها ويتساءل عن المخالفات ووجودها وسببها ومن يتحمل مسؤوليتها؟
لكن الروائي يقول: «من حق الإنسان أن يسأل عن بيت وأن يسكن..».
وعن قرارات الاستملاك وما جرّت يظهر الكاتب كيف انتقل أهل المناطق التي تم استملاكها وكيف تبعثروا في كل مكان.. وها هي السبحة ما تزال مستمرة إلى اليوم في البحث عن الاستقرار.
رواية مكان
اختار الروائي أسرة متوسطة مثقفة ببناتها وأبنائها، حياتهم تسير بيسر دون أي مطبات أو منغصات غير قابلة للحل، وكان راوياً ومشرفاً ومحاوراً ومستمعاً.. لكن هذه الأسرة وهذه الأسر شكلت اللحمة للرواية ورواية الأحداث، وكانت الحامل لنقل شيء ما كان الغاية الأكثر أهمية عنده وهو المكان.. زهرة الصبار رواية مكان بجدارة المكان هو البطل والحكاية، ابتداء من استجلاب الماضي وأحاديثه وكتبه وشعره من بطون الكتب في محاولة لتأصيل الحي العريق.
ورواية المكان هي من الروايات صعبة الكتابة لأنها يجب أن تحقق معادلات عديدة في فن السرد والتوثيق على السواء، وقد حقق الوز هذه المعادلة من رواية «دمشق» جاء الحب وإلى زهرة الصبار، وكذلك في معرض مؤجل، وكأني به سيتم مشروعه الروائي في رواية المكان غايتها وبطلها الأساسي.. وإن كانت بعض الفصول تصل حداً يتجاوز حدود السرد في توثيق المكان وإعلائه، إلا أن الموازنة ما بين السرد والمكان كانت أقوى، فنتج عن ذلك رواية المكان بطلها، والتأريخ ميدانها والتوثيق طريقها، والغد هدفها، لأجل المكان حاضن الحدث والأبطال.