عبد العزيز نشواتي المصور الرائد معلم الفن والحياة … من مكتب عنبر إلى آفاق الإبداع والتشكيل والتصوير.. كانت لوحته ترجمة لحبه لأسرته والمحيطين به
| سعد القاسم
يمثل الفنان الرائد عبد العزيز نشواتي (1912-2000) توق المجتمع الدمشقي في منتصف القرن العشرين لحياة اجتماعية وثقافية عصرية، تحفظ في الوقت ذاته التقدير للخصوصية الموروثة. وقد تجلى هذا بوضوح في أسلوب حياته، ونوعية ثقافته، ومظهره الشخصي، من جهة. وفي مواضيع لوحاته، ودوره في تنشيط الحياة الفنية، من جهة ثانية.
من دمشق القديمة
ولد عبد العزيز نشواتي في منطقة «ما بين السورين» في حي العمارة بدمشق القديمة، لأب يعمل في تجارة المواد اللاصقة (السراس) ويجيد القراءة والكتابة، لكن الفضل في إكمال تعليمه يعود لأحد أساتذة الحي الذي أقنع والده بتسجيله في مدرسة مكتب عنبر، حيث تابع دراسته بنجاح، وهناك بدأت موهبته في الرسم تعبر عن نفسها فرسم صديق دراسته الأديب والدبلوماسي جمال الفرا، فلفت انتباه أستاذ الرسم المعلم الرائد ميشيل ريشة الذي شجعه وأصبح من أصدقائه، وتظهرهما صورة ضوئية وهما يرسمان معاً عن الطبيعة مباشرة في بساتين الغوطة.
تابع دراسته في دار المعلمين، وتخرج فيها عام 1930، فعين مدرساً في بلودان، ثم عاد إلى دار المعلمين مدرساً بعد وقت قصير، وعن هذه المرحلة تحدث الأستاذ حسن كمال في مقالته عن عبد العزيز نشواتي، المنشورة في الكتيب الرابع (والأخير للأسف) من سلسلة (فنانون تشكيليون سوريون) فقال: «كنت واحداً من طلابه في الثلاثينيات، وكنت وزملائي نهرع إلى دروسه بشغف كبير، لأنه كان واضحاً في أدائه لمهمته، إذ كثيراً ما كان يرفد دروسه النظرية برسوماته الحلوة على السبورة، التي كنا نعجب بها، ويزداد استيعابنا لدروسه عن طريقها، فكانت دروسه مصدر راحة لنا».
العمل في التدريس
إلى جانب دار المعلمين قام بالتدريس في عدة ثانويات كان منها مدرسة التجهيز الأولى، وكان من طلابه فيها ممدوح قشلان، الذي ترك النشواتي فيه أثراً كبيراً حيث قال قشلان في لقاء أجرته معه الصحفية رندة القاسم نُشر في مجلة (الحياة التشكيلية) عام 2019 : «لقد كان أول لقاء لي مع الحضارة، فأنا لم أعرف الشوكة والسكينة إلا عن طريقه، قال لنا مرة غداً سنتناول الغداء معاً وليحضر كل منكم صحنا وشوكة وسكينة وملعقة، ولم يكن عندنا شوكة وسكينة، فاستعرت من الجيران، وعلّمنا كيف نستخدم الشوكة والسكين، وكيفية أصول الطعام، كان سابقاً لعصره بأساليبه التربوية، وكان يتميز بأنه يرسم على السبورة بالألوان، مهما كان الدرس، سواء كان قصة أو علوماً، وكنا نترجاه ألا يمحي الرسومات. كان يدرسنا كل المواد مستخدماً الأساليب الحديثة معتمداً على الرسم بشكل أساسي، وبعد ثلاثين سنة تحولت العلاقة لصداقة بعد أن أسست صالة إيبلا، إذ رأيته في الطريق، ودعوته لمعرض، وشارك في معرض جماعي وبيعت له لوحة واشترى لي ساعة وهو من ثبتها بنفسه على حائط الصالة، وصار يومياً يأتي إلى الصالة، كحال الكثيرين الذين يأتون ويكون لكل منهم مكانه الخاص».
الحيوية والثقافة والحضور
رغم أنه لم يتخصص بدراسة الفنون فقد كان حضوره بالغ الأهمية والتأثير في الساحة التشكيلية بحكم حيويته، وثقافته الواسعة، ولغته الفرنسية التي مكنته من الاطلاع على كتب فنية كثيرة ومهمة. وفي مقالة نشرتها لها مؤسسة أتاسي بعنوان: (تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية في سورية) أشارت السيدة لبنى حماد إلى مساهمة عبد العزيز نشواتي في هذه التجمعات، استناداً إلى لقاءات أجراها غازي الخالدي مع مجموعة من الفنانين ونشرها في صحيفة البعث عام 1968 حيث يقول النشواتي: « كانت دار الموسيقا الوطنية في مبنى النادي الأهلي نفسه (الرياضي) حالياً في الشهداء، وكان رئيس النادي مصطفى الصواف وكنت أنا ونصير شورى أعضاء في النادي وطلبنا تخصيص غرفة خاصة للرسم، وانضم إلينا بعد فترة قصيرة عدنان جباصيني وصلاح الناشف وكان هذا المرسم هو نواة لأول تجمع فني، وكنا نرسم مواضيع واحدة، ثم نناقش بعضنا فيها، وننقد بعضنا بقوة وصراحة».
التأسيس لجمعية الفنون
كانت الغرفة الصغيرة التي خصصها للتشكيليين في النادي الذي تأسس عام 1937، أحد أقدم مراسم دمشق. وبعد أن انسحب الفنانون التشكيليون من الدار، شارك النشواتي في تأسيس الجمعية العربية للفنون عام 1941، وفي العام ذاته كان من المشاركين في مرسم فيرونيز مع محمود جلال وعدنان جباصيني (صاحب المقر) ومحمود حماد ورشاد قصيباتي ونصير شورى. ثم شارك في تأسيس الجمعية السورية للفنون عام 1950 في منزل خالد معاذ بشارع 29 أيار. وفي نهاية العام ذاته انفصل التشكيليون عن الجمعية، عندما توسع نشاطها إلى ميادين عدة، وأسسوا رابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت التي ضمت أعضاء جمعية محبي الفنون الجميلة، وقدم لها صلاح الناشف منزله في شارع الشعلان.
بين الواقعية والانطباعية
مثل معظم أبناء جيله تراوح أسلوبه بين الواقعي والانطباعي، «ذلك أن الفنان يبقى ابن اللحظة التي يعمل فيها»- وفق تعبير الأستاذ حسن كمال – وفي كل الأحوال كان الضوء في اللوحة يلقى عناية خاصة. عرض لوحاته للمرة الأولى عام 1932 في بهو مدرج جامعة دمشق، ولسبب غير معروف لم يشارك في المعرض السنوي قبل دورته السابعة عام 1975، غير أن ما يلفت الاهتمام أن مشاركته الأولى منحته جائزة الدرجة الأولى عن لوحته (قبل الامتحان) التي صور فيها ولديه، والتي تمثل جزءاً من لوحاته التي كانت أسرته موضوعها، وخاصة زوجته الأديبة خديجة الجراح التي نشرت مجموعة كبيرة من الخواطر الأدبية والأشعار في الصحف والمجلات باسم (أم عصام)، إضافة إلى إصدار أربع مجموعات قصصية منذ عام 1960، وقدم لها الأديب عبد السلام العجيلي مجموعتها الخامسة لكنها رحلت قبل طباعتها. كان معظم لوحات النشواتي عن أسرته تترجم محبته لها، واعتزازه بها. كان الفن والأدب يخيمان على أجواء بيته الذي استقبل فيه الكثير من الفنانين والأدباء أمثال: ميشيل كرشة ونصير شورى وعبد السلام العجيلي وعادل أبو شنب ومحمد الماغوط وغيرهم. كانت أسرة مثقفة ومتوسطة تعيش برضى من راتبه في التعليم الثانوي في ثانوية ابن خلدون. وقد ربى أولاده على الثقافتين العربية والفرنسية اللتين كان يتقنهما ويمتلك منهما مكتبة مراجع فنية وجغرافية. فقد كان ضليعاً باللغة العربية وآدابها. لكن الأيام الجميلة كان لها أن تنتهي، فرحلت أم عصام عن الحياة في خريف عام 2020 ولم تمض ثلاثة أشهر حتى انضم إليها في عالم الخلود.