أزاحت الستائر التي مزقها الزمن، لم تكن عابئة بكمّ الدمار الذي طال كل شيء فيها، الغبار الذي تراكم على روحها لم يكن غباراً قاتلاً كما ظن ناثروه، والدمار الذي وصل إلى كل أنحائها عجز عن دخول الروح وبقي دماراً في أنحاء متعددة من الجسد المقدس الممدد، والدم بقي ينبض في كل شريان من شرايينها، ولم يتوقف عن أن يكون دماً جديداً، فالنزف الذي وقع لها كان نزفاً عادياً غير مؤثر، طالها لحسنها وبهائها، لكنه لم يتمكن من مصدر الدم والحب والبهاء..
حاسدوها ومبغضوها لم يتركوا صنفاً من أذى لم يطرقوها به، وبقيت هي تلوب بحثاً عن ذاتها في ذاتها، تتلطى أحياناً، تخفي حسنها أحياناً، تخفي ذاتها أحياناً، وتبرز بكل بهائها دوماً لتتحدى ذاتها قبل أن تتحدى الآخرين..
شاماتها علامة، وكلما أصيبت شامة وجدت شامات تأتي مكانها، وكأنها تلد الشامات من رحم أمومتها الكامن في الجوارح، وترقب، وتسخر، وتضحك.. إنها الشامات التي بدأت عدّها مع محبّها منذ عشرة آلاف سنة! تزول الدنيا ولا تزول الشامات، ولا تتحول الشامات لتصبح تلك التي تحتاج إلى إزالة شاماتها شامات حسن لا يصل مداها أحد مهما بلغ من العمر قالت: عشر من الجراح أثخنتني..
خمسون من الآه تحاول أن تنحرني
لا نهاية من الآه
وماذا بعد الشام وللشامات؟
ومع أيلول حملها الطفل زغرودة في حقيبته.. في كتابه المدرسي..
لم يشأ الطفل أن يحمل حقيبته بيده، حملها على ظهره، في وجدانه، في روحه..
لا يعنيه اسم الشاعر، لم يكترث لانتمائه، لم يحدد جغرافيته
حين يتحدث الشاعر عنها يبقى خارج إطار الزمن
يمضي عمره يتحدث عن شاماتها، ويبقى منزلقاً على حدود الشامات المتناثرة
من داخل سورها.. إلى صالحيتها.. إلى ميدانها.. إلى قنواتها.. إلى عفيفها.. إلى كل بقعة في قداسة طهرها، ويعجز عن أن يحدد الأكثر قدماً فيها ومنها.. ليعرف بأنها النبيذ المعتّق في خوابي الروح والزمن..
نظرها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.. واستلقى إلى جواره البياتي يرقب الدنان.. ورآها العفيف التلمساني.. وكان ابنه الشاب الظريف يتباهى بها..
صرعت الشاب الظريف فبكاه العفيف
وما تزال دمعات العفيف تتحدر من قاسيون، تغسل الشوارع والأزقة، تطهّر كل ما كان منها في الفصول الصعبة العجاف، لتكون دمعته أكثر طهراً ونبلاً وجمالاً وقداسة..
وتبقى على تعاقب الدهور
وتصمد رغم الأهوال والأنواء
وتجلو حسنها في كل وقت وحين
(شام شامة الدنيا ووردتها)
تهز غرتها.. تتقدم للزمن القادم.. لا يطولها زمن أو هرم..
وحين ينبلج الفجر كانت تعدّ نفسها.. تجهز هيئتها للخروج من الدمار..
لا تحزن يا هذا.. الزمن للشام وشاماتها وطهرها
ليكن ما شاؤوا فالمشيئة لي
لتتخلق حيث شئت فالمشيمة مشيمتي
وعلى وجل يرقب هذا ويترقب..
وحين تغمره اللحظة الدهشة يتغير وجه الكون..
يمحّي الكارهون.. يزول الطغاة.. تتناثر الألوان الزاهية
تتشكل لوحة من حب ووله للشام الباقية..
يتوقف النشاز
تلملم شظايا الروح لتقول:
المدائن لا تنتهي
المآذن لا تتوقف عن رفع صوتها
والأجراس ستقرع عند كل قدّاس
وعشق الأبد لا تنفث فيه أفعى.. ولا يمحوه حاقد وعاجز..
وتبدأ دورة زمن
اليوم
غداً
بعد غد
ما دامت الروح هيمى بالمطلق.