شكل اتفاق أوسلو الموقع بين «منظمة التحرير الفلسطينية» وسلطات الاحتلال الإسرائيلي شهر أيلول من العام 1993، مفترق طرق بالنسبة للقضية الفلسطينية التي راحت تتخذ في المحافل الدولية، بعد هذا الأخير، طابعاً مختلفاً عما سبق، لكنها في الوقت نفسه أحدثت انقساماً داخلياً قياساً للقراءة التي راحت تتبناها مجمل القوى والتيارات السياسية الفلسطينية لذلك الاتفاق، ففي الوقت الذي راهنت فيه «منظمة التحرير الفلسطينية»، التي ستحمل اسم «السلطة الفلسطينية» بعد أوسلو، على أن ما فعلته يمثل الخيار الأنسب للحصول على الحقوق ضمن المعطيات الراهنة، كان هناك العديد من القوى الفلسطينية مثل حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تريان أن ما جرى هو رهان خاسر، وأنه لن يؤدي إلا لانحسار القضية بعد دخولها سلسلة من المفاوضات يراد لها ألا تنتهي.
سارت المفاوضات الماراتونية، التي انطلقت ولم تتوقف إلا في حالات التشنج التي كان يستولدها اهتزاز الأمن في مناطق «السلطة» التي باتت مسؤولة عنه ما بعد أيلول 1993، في مسار بدا فعلاً أن لا نهاية له، بل الأخطر هو أن ذلك المسار راح ينحو باتجاه إحداث تلونات تستند في أغلبيتها إلى الاستثمار في واقع الانقسام الفلسطيني، وكذلك في واقع الضعف العربي الذي وهنت قدرته على تشكيل حائط دعم إسنادي في مسار ما زال يمثل «أس الصراع» في المنطقة على الرغم مما اعترى هذي الأخيرة من صراعات، والتلون ذاته كان قد بلغ مداه في إطلاق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فكرة «صفقة القرن» التي رشح عنها الكثير ولم تعرف إلى الآن حيثياتها بدقة، لكن ما رشح كان كافياً للجزم بأنها كانت تعبيراً عن انحدار التعاطي الأميركي مع القضية الفلسطينية إلى مستو غير مسبوق، واللافت في الأمر هو أن ذلك التعاطي لم يلق رفضاً عربيا قاطعاً حتى إن العديد من الدول الفاعلة كانت قد تفاعلت مع «العرض» بطريقة توحي بأنه «يحتاج إلى بعض التعديلات» لكي «يصبح أكثر قبولاً» مع تسجيل رفض قاطع سوري أردني فلسطيني، وإن لم يكن هذا الأخير قد جرى بفعل تنسيق المواقف فيما بين ذلك الثالوث.
في الغضون شنت تل أبيب بين 2008 و2021 خمس حروب على قطاع غزة كان آخرها في رمضان من هذا العام الأخير، وفي كل المحطات السابقة لم يكن الموقف الفلسطيني موحداً تجاه ما يجري، الأمر الذي يشير إلى تجذر الافتراقات التي قادت إليها التباينات الناشئة بفعل النظرة إلى «أوسلو» الذي لا يزال يشكل إسفيناً من الصعب استخراجه دون آلام قد لا يحتملها الجسد الفلسطيني راهناً، وربما سيحتاج فعل من هذا النوع إلى وقت طويل قبيل أن يحدث، لكنه سيحدث في نهاية المطاف طال الوقت أم قصر.
وسط هذه الانقسامات الحاصلة ما بين القوى السياسية الفلسطينية، والتي لا يبدو أن «وثيقة الجزائر» الموقعة فيما بينها مؤخراً ستكون أوفر حظاً من نظيرات لها وقعت في مكة ودمشق، يجد الشارع الفلسطيني نفسه بعيداً عن حسابات كل هؤلاء، وهو يسعى إلى تغيير هذا الواقع عبر العودة إلى المقاربات التي كانت سائدة ما قبل أوسلو والذي باتت أغلبية الشارع الفلسطيني تنظر إليه على أنه «أصل الداء» الذي يؤدي تجاهله إلى معالجات خاطئة بالضرورة.
في شهر حزيران من العام المنصرم خرجت إلى العلن «كتيبة جنين» التي حصرت نشاطها بجنين ومخيماتها، والفعل كما يبدو أطلق مخيلة شبان كثر راحوا يعملون على استنساخ التجربة بعدما استطاعت فرض معطيات جديدة، ففي شباط الماضي خرجت أيضاً للعلن مجموعة أطلقت على نفسها اسم «كتيبة نابلس»، وعددها لا يتعدى العشرة، كما تقول تقارير، وسريعاً ما استطاعت أن تحدث التفافاً حولها قبيل أن تذهب إلى تغيير اسمها الذي أضحى «عرين الأسود» بعدما أصبحت على امتداد الشهرين الماضيين، الشغل الشاغل لأجهزة الأمن الإسرائيلية، وكذلك لمراكز الدراسات والمعلقين الإسرائيليين الذين ذهبوا نحو تحليل الظاهرة كفعل لا بديل منه لاحتوائها، أو وأدها قبيل أن تستشري فتصبح نموذجاً محفزاً لشارع بدا يائساً من الأداء السياسي لقياداته التي راحت تتخبط على وقع تشابك الأحداث حتى لم يعد بمقدورها تحديد وجهة «الشمال» في بوصلتها التي اعتراها الصدأ بدرجة أعطبت حركتها بشكل شبه تام.
استطاعت «عرين الأسود» التي لم يمض على تأسيسها أكثر من ثمانية أشهر، أن تخلق حالة شعبية تمظهرت بالكثير من المظاهر، فقناتها على «تيلغرام» تشير إلى أن متابعيها فاق الـ140 ألف متابع، وهي عندما أطلقت نداء تضامن مع مقاتليها، شهر أيلول المنصرم، خرج الآلاف على أسطح المنازل ليرفعوا التكبيرات تضامناً مع ذلك النداء، وفي مطلع شهر تشرين الأول المنصرم خرج شبان فلسطينيون في كل محافظات الضفة الغربية والقدس الشرقية في تظاهرات كان الشعار الأبرز فيها «العرين ما يلين»، وهذا المنحى يشير إلى خط بياني تصاعدي لجهة توسع الحاضنة اللازمة لارتفاع وتيرة الظاهرة بما يخلق حالة شعبية يمكن لها أن تؤسس لانتفاضة ثالثة قد تكون هي الأجدى من سابقتيها.
ظاهرة «عرين الأسود»، التي حفزت لبروز ظواهر أخرى مثل «كتيبة طولكرم» و«كتيبة طوباس» تشير إلى أن «الكرم بات مليئاً بالحطب»، وتلك رسالة قد تكون موجهة لسلطات الاحتلال وللسلطة الفلسطينية على حد سواء، وهي تعبير عن جيل من الشباب لم تعد تعنيه مصطلحات من نوع وجوب «الحفاظ على الأمن والاستقرار»، ولا تعنيه مبررات من نوع «موازين القوى الداخلية والخارجية» التي لا تسمح بنسف أوسلو، صحيح أن ذلك الجيل لا يبدو ممتلكاً القدرة والخبرة لممارسة الفعل السياسي العسكري المنظم، لكن المؤشرات كلها توحي بأن هدفه من مواجهة قوات الاحتلال في القرى والمدن الفلسطينية هو تعطيل حياة سكان المستوطنات من جهة، وإثارة الشارع الفلسطيني من جهة ثانية، وهو إذ يمارس ذلك النهج يبدو كأنه مدفوع هذه المرة بنظرة أمل لا تشابه نظرة «اليأس» التي دفعت في مرات سابقة نحو «عواصف» لم يكن لها الكثير من التأثير في مجريات لاحقة.