بدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أكثر استقراراً مما كان يظن، وربما أكثر تمثيلاً للأميركيين بعدما راجت تقارير، يؤيدها العديد من الوقائع قبيل الانتخابات النصفية عن أنها ستجري كما بين «شعبين في بلد واحد»، وما أظهرته النتائج الأولية لتلك الانتخابات يشير إلى مشهد يوحي بذينك الأمرين، أي الاستقرار والتمثيل، أقله قياساً للتوقعات التي سادت قبيل 8 تشرين الثاني الجاري، التي كانت تشير في معظمها إلى أن «الجمهوريين» مقبلون على حالة هي أقرب لقلب الطاولة على رأس بايدن، على حين بات من المؤكد، على الرغم من أن المشهد لم ينقشع ضبابه بعد، أن إدارة بايدن استطاعت إدخال «المد الجمهوري» في مرحلة انحسار ستضمن له «هدوءاً» لسنتي ولايته، هذا إن لم تضعه بموقع القوة على تجديد ولايته لأربع سنوات مقبلة إذا ما ساعدت «عافية» رجل ثمانيني القيام بتلك المهمة، وإلا فستضمن حلول نائبته محله العام 2025، أو أي شخص آخر يختاره الديمقراطيون لكي يحمل الرقم 47 على لائحة رؤساء الولايات المتحدة الأميركية.
ما تشي به نتائج الانتخابات النصفية هو أن الولايات المتحدة قررت لملمة انقساماتها، ولو إلى حين، ما يعزز من تماسك إدارة جو بايدن، حيث ستكون للفعل تداعيات دولية وأخرى إقليمية، وهي في كلتيها ستكون مؤثرة في العديد من الأزمات والمناطق الساخنة وربما كانت الأزمتان الأوكرانية والسورية في الذروة من تلك الملفات.
قد يكون من المبكر الآن رسم «أنفوغرافيك» واضح للمشهد الأميركي المرتسم ما بعد الثامن من الشهر الجاري وخصوصاً أن موازين القوى لا تزال غير واضحة في «مرسم» مجلس الشيوخ الذي تختط «ريش» أعضائه المئة كبرى القرارات ومنحى التوجهات وصولاً إلى رسم الإستراتيجيات المتوسطة والبعيدة الأمد على حد سواء، لكن المتوافر حتى الآن يظهر أن زمرة «المتضررين» تحوي كلاً من «أنقرة رجب طيب أردوغان»، و«تل أبيب بنيامين نتنياهو»، و«لرياض محمد بن سلمان»، على حين تضم زمرة «المستبشرين خيراً» إيران بالدرجة الأولى التي ترى أن مسألة ملفها النووي، والمفاوضات الجارية بشأنها، لن تعاود مسار الانتكاسة الذي اتخذته زمن الجمهوريين، وأن «الاتفاق» حاصل إما اليوم وإما غداً، وحتى إن لم يحدث ذلك على المدى المنظور فلا مخاطر تتهدد طبيعة العلاقة القائمة بين واشنطن وطهران والتي تتخذ فيها الأولى مسافة لا تقربها تجاه كل ما يثير الأخيرة، الأمر الذي أثبتته طبيعة التعاطي الأميركي مع الاحتجاجات التي تشهدها إيران قبيل نحو شهرين من اليوم.
من دون أدنى شك أن لدى الولايات المتحدة، بجمهورييها وديمقراطييها مشروعاً لتقسيم سورية على النحو الذي فعلته في عراق ما بعد نيسان 2003، وهذا المشروع يحظى بدعم قوى إقليمية عديدة في الذروة منها إسرائيل، كما أن له أدوات داخلية تبدو على كامل الاستعداد لتنفيذه، على حين تصدر الشارة الأميركية معلنة وجوب وضع المشروع قيد التنفيذ، ومن المؤكد أن نجاح هذا المشروع، أو فشله، سوف يتوقف وإلى حد بعيد على مدى التناغم القائم ما بين المركز الأميركي، وبين الأطراف التي تمثلها الأدوات الداخلية والإقليمية، وإذا ما وقفنا أمام المشهد الأولي المرتسم في واشنطن ما بعد انتخابات الكونغرس يمكن لحظ أن جل تلك الأدوات باتت تتراصف الآن في طابور «المتضررين»، وبمعنى آخر أن العلاقة بين «المركز» و«الأطراف» ليست على ما يرام أقله في غضون السنتين المقبلتين.
قد يقول قائل إن السياسة الأميركية في سورية لم تشهد تغيراً يذكر منذ العام 2011 وصولاً إلى اليوم، والقول لا شك صحيح، بل من الجائز أن نضيف إليه أن تلك السياسة كانت قد شهدت تصعيداً بدرجة لافتة منذ النصفية الثانية لولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، لكن الأمر هنا لا يعود فقط، أو أنه لا يعتبر مؤشراً فحسب، على استمرارية المشروع الذي نقصد به هنا التفكير بتقسيم سورية، وإنما يعود أيضاً لاعتبارات لها علاقة بالنظرة السورية للسياسة الأميركية، مع تسجيل نقطة مهمة في هذا السياق، هو أن النظرة المجتمعية- الثقافية السورية للكيان الأميركي والأدوار التي يقوم بها، قد تغيرت كثيراً اليوم عن تلك التي كانت قائمة زمن الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، قد يكون ذلك مؤشراً على تصاعد التيار «الليبرالي» في سورية، لكن المسألة المهمة هنا هي أن تلك النظرة قد تغيرت، وإذا ما كان واجب الدولة والمجتمع السوري على حد سواء مقاومة مشروع التقسيم بكل الوسائل المتاحة، فإن الحوار مع واشنطن يجب أن يكون على رأس تلك الوسائل من دون أن يعني ذلك أن تلك الوسيلة يجب أن تكون وحيدة.
سبق للدبلوماسية السورية إن حققت اختراقات وازنة في المشروعات الأميركية التي كانت ترسم للمنطقة، حتى أن تلك الاختراقات كانت قد استطاعت حرف تلك المشاريع عن مسارها، صحيح أن المعطيات تغيرت اليوم، لكن لكل متغير أيضاً أدواته، ودمشق لديها الكثير مما يمكن استخدامه، ثم أن واشنطن ما انفكت ترسل الإشارات التي تؤكد أنها غير راغبة في أن ينبت العشب على الطريق الموصل بينها وبين دمشق.
لا مناص من فتح حوار سوري مع واشنطن، فالأخيرة ورغم تهتك جزء من نسيج هيمنتها العالمية ما زالت هي التي ترسم ملامح الأزمات وكذا لون حلولها، ثم إنها لا تزال تمسك بعداد الوقت الذي يحدد ساعة بدئها وساعة انتهائها.