وفق تأكيدات مصادر غربية نقلتها صحيفة «الوطن» السورية قبل أيام فإن المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون سيحط رحاله في دمشق منتصف شهر شباط الجاري، فيما ذكرت تلك المصادر أن الأخير لا يحمل في جعبته تطورات، أو مقاربات، جديدة تخص القرار 2254، أو تطرح مقاربات جديدة في آليات «اللجنة الدستورية» وإمكان حدوث اختراق للجمود الحاصل فيها منذ صيف العام الماضي عندما اعترضت موسكو، وأيدتها دمشق، على احتضان جنيف لجولات تلك اللجنة بعدما اتهمتها الأولى بالخروج عن حيادها الذي عرفت به على مدى قرنين في أعقاب المواقف التي انتهجتها، حكومة هذه الأخيرة، من الصراع الذي كان دائراً، ولا يزال، في أوكرانيا، والسؤال إذاً يصبح: ماذا يريد بيدرسون من زيارة دمشق، وما هي مراميه من تلك الزيارة؟
يدرك بيدرسون أن «عقدة» جنيف من الصعب حلها في الوقت الراهن سواء أكان ذلك لجهة عودة انعقاد جولات «اللجنة الدستورية» على أراضيها من جديد، أم لجهة التوافق حول مكان جديد يكون بديلاً منها لاحتضان تلك الجولات التي كانت أشبه بـ«تجمع» للمتناقضات التي لا تلتقي في شيء، بل ولا تلتقي حتى بالحدود الدنيا، الفعل الذي قد يؤسس لحوار من الممكن الرهان عليه للوصول إلى نتائج، ولعل من المفيد القول هنا: إن حصيلة الجولات التسع عشرة، التي كانت صفراً، بدت كما لو أنها صراع مركزيته الأساس تقوم على «تثبيت المصطلحات» التي يرى كل طرف فيها عاملاً مهماً وحاسماً، لمشروع سورية التي يراها أو يريدها.
في التحليل، يبدو المبعوث الأممي معنياً بالحركة كأساس لا بديل منه للقول بعدم «موات» مهمته، وهو إذ أبدى جلداً وصلابة يفوقان ما تمتع بهما أسلافه الأربعة الذين سبقوه، يريد أن يقول إن جعابه لم تزل تحتوي المزيد من تينك الصفتين اللتين تميزان الساسة «الكبار» القادرين على الثبات في أعتى الظروف، وربما كان في الأمر ما يدعو إليه، فالرجل استطاع الاستمرار في مهمة تبدو شديدة التعقيد في ظل تشابكات ما انفكت تزيد من مهمته تعقيداً، وإن كان في الأمر تراسيم لمرام أخرى من نوع أن حراكه وقراره، بات منذ أن طرح خطته المعروفة بـ«الخطوة مقابل الخطوة» رهينة الغرب، فمنبت الخطة كان أميركياً وهي خرجت للعلن من دوائر الخارجية الأميركية قبيل أن نسمعها على لسانه، ولذا فإن قرار الاستمرار، أو الاستقالة، يصبح ملك يمين صاحب الفكرة الذي لا يزال يرى، كما يبدو، أن ثمة نبضاً فيها يوحي بالحياة.
هذه السردية السابقة تحتم على بيدرسون المضي في خياراته التي سيذهب من خلالها إلى الدوران في متاهة «الخطوة بخطوة» التي كانت تمثل بادرة قادرة على فعل أشياء وأشياء لو لم يذهب الغرب إلى إفراغها من محتواها، ولو لم يستخدمها هذا الأخير كمنصة يبني عليها مشروعه الكبير المتضمن رسماً جديداً لحقائق السياسة والدور السوريين بما يتناسب مع أهوائه ومصالحه، والمضي إياه سيحتم على المبعوث الأممي السعي في محاولة إحداث شقوق في الجدارات العالية القائمة ما بين دمشق ومجمل الغرب، الأمر الذي يجد فيه صعوبة بالغة، لكن كسرها لا يبدو مستحيلاً خصوصاً أن سيل المتغيرات يبدو جارفاً بدرجة قد تزيل الكثير من تحصيناتها والكثير من مداميكها.
ثمة شيء آخر يبدو أن زيارة بيدرسون ستكون معنية بتحسسه، وهو يتمثل بمحاولة الأخير الوقوف، وربما الإلتفاف، على التطورات المتلاحقة التي ترصدها تقارير إعلامية، وكذا تصريحات خرجت عن المألوف وهي تستحضر احتمالات عديدة، في ملف التقارب السوري- التركي الذي فيما لو حصل بالصورة التي ترسمها له تلك التطورات والتصريحات فإن هذا سيكون كفيلاً بإعطاء «مسار أستانا» دفعة جديدة، هذا إن لم يعطِهِ صبغة أخرى تختلف جذرياً عن مساره السابق على مدى السنوات الست السابقة، خصوصاً بعد دعوة الرئيس التركي يوم 29 كانون ثاني الماضي إلى انعقاد اجتماع سوري- تركي- روسي مشيراً في تصريحه ذاك، إلى إمكانية انضمام إيران إلى هذا الاجتماع وفق تصريحات نقلتها عنه وكالة الأناضول، وذاك لوحده يمثل انقلاباً بالغ الأهمية في المشهد، فمهما قيل عن التنسيق القائم ما بين أنقرة وطهران في سياق المسار آنف الذكر تبقى هناك حيثيات تفرضها مصالح كل منهما في سورية، وهي تضع الدورين التركي والإيراني في سياق متضارب، أقرب منه إلى المتساوق في هذه الأخيرة، أما أن تصبح دمشق شريكة في ذلك المسار فهذا يعني أن ثمة ضوابط سوف تفرض نوعاً من التفاهمات بين ذينك الدورين وصولاً إلى إحداث تناغم في الحركة قد يكون وازناً لجهة الدفع بالعربة التي تجرها القاطرة الروسية قدما نحو الأمام.
قد يكون هذا المرمى الأخير هو الأهم من بين الموجبات السابقة التي دفعت ببيدرسون لزيارة دمشق، وهذا كفيل بوضع زيارة هذا الأخير في سياق استطلاعي – استشرافي يراد منه الوقوف على المآلات المحتملة لمشروع روسي مصرّ، كما يبدو، على إنضاج تسوية سياسية «جزئية» للأزمة السورية يكون بعيداً عن مسار «جنيف»، وبعيداً عن إرادة الغرب، طالما أن هذا الأخير مصرّ على العبث بتركيبة المنطقة، ومصرّ أيضاً على تجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ، ما يجعل من «حلوله» أداة تفجير كامنة لا بديل من انفجارها عندما ينفلت الصاعق الذي لا بد له وأن ينفلت تبعاً للتراكمات التي تستجلبها تلك الحلول.