يوم 12 تشرين الثاني من العام 2011 وفي اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب كان قد انعقد في القاهرة جرى تعليق عضوية سورية بجامعة الدول العربية بقرار تلاه نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري حمد بن جاسم، وللأمر- هذا الأخير- دلالاته التي راحت تتكشف تباعاً ثم تبين من خلال شقوقها المرامي الأبعد لذلك الفعل.
كان القرار تحولاً درامياً مفاجئاً مما لا تحتمله الوقائع على الأرض، ولا تبرره طبيعة الأحداث الجارية التي كان من الممكن لطريقة تعاطٍ إيجابية أن تخفف الكثير من أثقالها، لكن المراد كان عكس ذلك تماماً، وبمعنى أدق لم يكن «النظام السوري» هو المستهدف كما أوحى القرار الذي تلاه بن جاسم آنف الذكر، والمستهدف كان الهوية العربية التي أريد خلخلتها من خلال الضرب في عمقها السوري، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى تدمير النظام الإقليمي العربي الذي يمثل جداراً إسنادياً لتلك الهوية، وما جرى خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية كان يمثل بالتأكيد حالاً هي أشبه بـ«التيه» الذي يصيب المركب عند فقدان البوصلة الذي يدفع عادة بالركاب للتفكير فقط بمصيرهم متناسين، في لحظة عصيبة، أن مصير الجوار، جوارهم، يمثل أيضاً عاملاً مهماً لأمنهم، فكيف إذا ما كان ذلك الجوار هو «القلب» الذي ما انفك يمد الشرايين على الدوام، أقله منذ دولة الأمويين، بما يلزمها لنشاط الجسد وتمام أدائه لحركته.
في غضون السنوات الأربع الماضية أصاب «الجسد» حالا من التململ تجاه مقررات اجتماع القاهرة مما يبرزه الحراك «الفردي» الذي راحت تختطه بعض الدول بعيداً عن مخرجات تلك القرارات، لكن الفعل ظل، من حيث النتيجة كما «الحبو» عند الوليد الذي ينتظر اشتداد عوده لكي يتمكن من السير بثبات، ولربما كان ذلك الظهور ينتظر «لحظة ما» سياسية كانت أو حتى «قدرية» حتى تكتمل عوامل التوازن فتصبح الحركة بذلك واثقة أو هي مكتملة المعالم.
كانت لحظة 6 شباط كاشفة للكثير على مختلف الأصعدة، فهي إذ أظهرت تعب السوريين بفعل الحرب والحصار الذي كان أقساه من «ذوي القربى»، أظهرت في مقلب آخر أن الروح العربية لا تزال نشطة وجل ما في الأمر أنها كانت في حالة «كمون» فرضتها ظروف وأحداث غاية في التعقيد وما تكشف منها حتى الآن هو نذر يسير، وهي، أي تلك اللحظة، كانت من النوع الانفجاري الذي استدعى بسرعة عودة الشرايين لتعمل بكل طاقاتها في مظهر يتعدى في حدوده البعدين الإغاثي والإنساني، ليصل إلى حدود قومية وسياسية ما يؤكد أن فكرة «القومية العربية» لا تزال حية، وأن فكرة الأمة العربية لا تزال تمتلك مقومات الديمومة والاستمرار بل لا تزال تمثل كينونة صالحة للنهوض بشعوب المنطقة التي كانت «دريئة» للتصويب جرى استهدافها على امتداد ما يزيد على قرن، وما فعلته كل من الجزائر والإمارات ولبنان وفلسطين والعراق والأردن، كان فعلاً ذا بعد حضاري له دلالاته العميقة، وهو يلحظ أن ثمة شعباً يتعرض لفعل الاقتلاع من جذوره بضغوط وحصار يفوق طاقاته، كما يلحظ أن فعل الاقتلاع، في تضاعيفه، يذهب بعيداً ليطول أمة على امتدادها من المحيط إلى الخليج.
بشكل ما كانت الطائرات العائدة لتلك الدول التي حطت في مطارات دمشق وحلب واللاذقية هي تعبير عن الوفاء لشعب ودور سوريين ما انفكا يمدان أذرعهما تجاه محيطيهما العروبي فيمدانه بعوامل القوة والاستمرار، وهو يستذكر محطات لا تزال تغوص في الذات الجماعية للأمة بدءاً من عز الدين القسام الذي ارتحل من «سورياه» الشمالية العام 1935 لنصرة جنوبها الذي عمده بدمائه فارضاً وحدة المصير والمسار، ثم مروراً بجول جمال الذي أبحر من اللاذقية العام 1956 ليحط طالباً في الكلية البحرية، وقبيل أن يتم سنته الدراسية الأولى كان قد اعترضه «عدوان السويس» ليجد نفسه يوم 4 تشرين الأول من هذا العام الأخير في مواجهة جمال الدسوقي، قائد القوات البحرية المصرية، الذي حاول منعه من المشاركة في العمليات الحربية بذريعة أن القوانين المصرية لا تسمح بمشاركة غير المصريين بها، عندها رد عليه جول «عندما أرى شوارع الإسكندرية كأني أرى شوارع اللاذقية»، ثم أضاف «في المعركة لا فرق بين سوري ومصري ولا بين أي عربي آخر»، ثم مضى نحو غايته التي دمغتها دماؤه الطاهرة بجدران البارجة الفرنسية «جان بارت» لتحيلها عبئاً على جيوش غازية بدل أن تكون رأس حربة في غزوها ذاك، ومروراً أيضاً بما قدمه السوريون للثورة الجزائرية 1954 – 1962 التي وإن كانت قبلة للأحرار في العالم، لكن بصمة المشاركة السورية فيها كانت ذات طابع آخر، والسرد، إذا ما أردنا إعطاءه حقه، يطول ويطول مما لا يتسع المجال هنا لفعل من ذلك النوع، لكن ذكراً سريعاً لمحطات قد يفي بجزء من الغرض، فدمشق التي خاضت معركة «السلطان يعقوب» على الأراضي اللبنانية كانت تدرك أنها بذاك تعرض أمنها لخطر حقيقي وخصوصاً أن جيشها لم يكن يملك غطاء جوياً بعد أن تم تدمير بطاريات الصواريخ السورية العاملة في لبنان 11 حزيران 1982، دمشق هذه كانت تدرك أن الخسائر ستكون كبرى على ضفة العتاد والضحايا، لكن المكاسب ستكون كبرى على ضفاف العروبة وإثبات وحدة المصير.
ما تريد هذه السردية قوله إن حسابات دمشق لم تكن في يوم من الأيام وفق معايير الربح والخسارة الماديين، وسياساتها كانت منذ استقلالها تريد القول إن العروبة ليست هوية حضارية وتاريخية فحسب، بل هي الضمان الحقيقي للأمن الإستراتيجي العربي، إضافة إلى الأمنين الاقتصادي والحضاري، ومعركة العرب لإنقاذ دمشق التي بدأت ما بعد 6 شباط يجب أن تستمر وتستمر لتحطيم هذا الحصار الجائر الذي أراد ضرب العالم العربي في قلبه.