ذهبت الولايات المتحدة بعد سيطرة «تنظيم الدولة الإسلامية- داعش» على أجزاء من سورية والعراق صيف العام 2014 نحو تأسيس «التحالف الدولي» لمحاربة ذلك التنظيم على الرغم من أنها كانت «تميل» في بداية صعود هذا الأخير نحو مد الجسور معه، وهو ما يظهر بوضوح في مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية خلال ولاية الرئيس باراك أوباما الأولى، هيلاري كلينتون، التي جاء فيها: «إن إدارة الرئيس باراك أوباما كانت على وشك الاعتراف بدولة إسلامية تقوم على أجزاء من سورية والعراق» قبيل أن يتغير ذلك الموقف بفعل «الحدث المصري»، الذي قصدت به هنا سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في القاهرة مطلع شهر تموز من العام 2013 والذي قالت عنه إنه «غيّر الكثير من المعطيات»، والفعل، أي تأسيس «التحالف الدولي»، فرض بدوره وجوداً عسكرياً بالتزامن مع البحث عن «حليف بري»، ما كان ممكناً له أن ينتج عن نسيج «المجلس الوطني السوري» ولا «الائتلاف السوري» الذي جاء بديلاً من الأخير لاعتبارات أيديولوجية تتعلق بالثقل الذي حظي به «الإخوان المسلمون» في ذينك الكيانين، ما أثار الريبة لدى الأميركيين في إمكانية أن يكون هؤلاء حليفاً ذا مصداقية في دحر «تنظيم الدولة الإسلامية» للاعتبارات السابقة الذكر، ولذا فقد راحت الخيارات نحو «التنظيمات الكردية» التي كان أبرزها حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الذي يمثل الطبعة السورية من «حزب العمال الكردستاني» لاعتبارات تتعلق أيضاً بالأيديولوجيا، ثم تتعلق بالعرق كعامل يمثل درجة ثانية من حيث الأهمية وفقاً للتقييم الأميركي.
ما بين العامين 2014 و2019 الذي شهد آذاره الإعلان عن تصفية آخر معقل لـ«تنظيم الدولة الإسلامية» في الباغوز شرق دير الزور، تغير الكثير من المعطيات التي كان لها ارتداداتها على الوجود العسكري الأميركي في الجزيرة السورية، وتلك المعطيات كانت ذات منبعين أولاهما داخلي أميركي وهو يتعلق ببعدين يتمثلان بقانونيته ثم بالمصلحة الأميركية العليا، أما ثانيهما فله علاقة بالأبعاد الإقليمية والدولية لذلك الوجود الذي لم يكن يمتلك غطاء دولياً يمنحه الشرعية، وجل ما امتلكه هو القوة فحسب التي أعطت لذلك الوجود «شرعيته»، وما قبل هذا التاريخ الأخير، أي آذار 2019، فقد كان هناك العديد من المؤشرات التي تقول إن المآلات ذاهبة إليه، أصدر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أواخر العام 2018 قراراً يقضي بانسحاب قواته من الجزيرة السورية في مؤشر له العديد من الدلالات التي تصب في اتجاهات شتى، لكن الأهم منها هو أن الوجود العسكري الأميركي في سورية لا يمكن إدراجه في سياق المصلحة الأميركية العليا، وما جرى في حينها هو أن صقور «البنتاغون» استطاعوا كبح جماح الرئيس عن تنفيذ ذلك القرار الفعل الذي مثّل «لياً» لذراع هذا الأخير، وما كان له أن يتحقق لو لم يكن ترامب قد اتخذ قراره الشهير بإلغاء «الاتفاق النووي الإيراني» أيار من العام 2018، أي قبل قرار انسحاب القوات الأميركية من سورية بنحو ستة أشهر، فالقراران من حيث الطبيعة الأمنية والجيوسياسية يبدوان متناقضين، حيث كان فعل الإلغاء يعني بالنسبة لـ«البنتاغون» الذهاب نحو التصعيد مع طهران الذي يحتمل المضي نحو المواجهة وعندها ستكون «قاعدة التنف» نقطة ارتكاز مهمة في هذه الأخيرة، إذ لطالما شكلت تلك القاعدة مركز رصد متطوراً استخدمته الولايات المتحدة، وكذا إسرائيل، لمراقبة إيران واستهداف العمق السوري.
مثّل الانسحاب الأميركي من سورية نقطة تجاذب بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وخصوصاً زمن الرئيس ترامب، حيث كانت ميول «الجمهوري» لتحقيق فعل الانسحاب بارزة بوضوح على حساب «الديمقراطي» الذي عارضها بقوة، لكن إحداثيات تلك النقطة تغيرت منذ بدء الحرب الأوكرانية شهر شباط من العام الماضي، وكذا تغيرت في ظل التصعيد الأميركي في مواجهة طهران، الذي تبدو تباشيره وكأنه ماض نحو المزيد منه، والتغير إياه يمكن تلمسه عبر التقاطعات الجارية بين نواب الحزبين، وكذا قواعدهما التي راحت تبدي تململاً بين الحين والآخر نحو الوجود العسكري في سورية على وقع التطورات الحاصلة في ملفات إقليمية ودولية عديدة، لكن فعل التململ لم يعط «ثماره» المرجوة سورية منه، تبعا لمعطى مهم لا يتعلق بالمصلحة الأميركية بل لا يتعلق أيضاً بطبيعة «التحالف» القائم بين واشنطن وفصائل «قسد» شمال شرقي سورية.
صوت مجلس النواب الأميركي يوم 8 آذار الجاري على مشروع قرار تقدم به النائب الجمهوري عن فلوريدا مات غايتس، ويقضي بمطالبة الرئيس بسحب قواته من سورية خلال ستة أشهر، لكن النتيجة جاءت لتقر، بأغلبية واضحة، رفض المشروع الذي أيده 103 أصوات على حين رفضه 321 صوتاً، ومع ذلك حملت «خريطة» التصويت ملمحاً مهماً تمثل في ارتفاع نسبة التأييد للمشروع داخل الحزب الديمقراطي التي كانت عند حدود 26 بالمئة من أعضائه متفوقة على نظيرتها عند الجمهوريين التي جاءت عند حدود 22 بالمئة.
عملية التصويت لا تعبر بالتأكيد عن المزاج العام الأميركي الذي يفترض أن يمثله أعضاء الكونغرس، إذ لطالما كان هذا الأخير تعبيراً عن تكتلات ومصالح لا علاقة لها بذلك المزاج، وما يعبر عن هذا الأخير هو استطلاعات الرأي التي تجربها مراكز الأبحاث والدراسات ذات الاختصاص، وفي ذاك نشير إلى أن الـ«واشنطن بوست» كانت قد نشرت خلال عام 2022 اثنين منها يتعلقان بالوجود الأميركي في سورية، كانت نتيجة الأول تقول إن 51.3 من الأميركيين يؤيدون الانسحاب منها، على حين كانت نتيجة الثاني تقول إن نسبة هؤلاء قد بلغت 54.1 خلال شهر أيلول الماضي، لكن الاستثمار في ذلك يتطلب أمرين أولاهما الظروف المحيطة بذلك «الواقع» ثم التقاط «اللحظة» الأصعب في تلك الظروف، وعلى الرغم من أن مشروع غايتس آنف الذكر، جاء في أعقاب إصابة 4 جنود أميركيين بجروح شهر شباط المنصرم خلال غارة كانت تستهدف اغتيال حمزة الحمصي، القيادي في تنظيم «داعش»، إلا أن ذلك لم يكن كافياً، كما يبدو، لفرز واقع سياسي ضاغط بدرجة كافية.
في مطلق الأحوال كانت عملية التصويت والنتائج التي أفضت إليها مرتبطة بالدرجة الأولى بالتصعيد الأميركي الراهن في مواجهة إيران، والجدل الأميركي حول الانسحاب من سورية لن يتوقف بمفاعيل تصويت مجلس النواب آنف الذكر، والنتائج التي آل إليها هذا الأخير ستكون غيرها، إذا ما سارت العلاقة مع إيران باتجاه مغاير، ثم أن الفعل سيكتسب طبيعة مختلفة أيضاً بدءا من صيف العام المقبل الذي سيشهد بداية المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة.