نزار قباني.. مئة عام من الحب والثورة .. أنا من طعنه في صدره والرقبة في فكره المنخور مثل الخشبة
| إسماعيل مروة
في الربيع تتفتق الأزهار لألف نوع ونوع، وترقب السماء لتكون هذه الأوقات أوقات ميلاد للحب والخير، وتنسرب أرواح بينها تولد كل لحظة من اللحظات، تولد الأرواح وتكبر، وتسير في مسارب الحياة، قد تنتش شيئاً ما، وقد لا تفعل، قد تطرق باب الذاكرة وقد لا تفعل، ولكن الربيع يبقى على الجود بزهرة من كل لون ونوع، عيسى أن يكون منها ما هو في ملكوت العطر الذي لا يزول أثره.. وقبل مئة عام من اليوم كان الربيع مختلفاً، كان الربيع شآمياً، والأزهار خاصة بسكب العطر والورد والحب، واجتمعت نسغ الشام كلها والعبقرية لزهرة في أصيص للزريعة في حي القيميرية بدمشق، يستند إلى جدار شآمي عتيق ومتين، وكانت الزهرة الأبهى، تلك الزهرة العبقرية، فيها عطر كون، وفيها نبوءة ألف ألف شاعر، وفيها تجذر شجر الغوطة، وكان نزار قباني ترعاه أم المعتز، ويسقيه أبو المعتز، ويتزود من فروع بردى، فتارة يأخذ من علي والحسين، وتارة يبكي كربلاء، وتارة يفاخر بأمية ويستنجد بعيني معاوية، وفي كل وقت وحين، كان الوطن امرأة من نوع نادر، وكانت المرأة وطناً لروحه وعواطفه وشيطناته وآماله.
الفتى الدمشقي
كانت ولادة سيد من سادة الشعر، وزهرة من ندى العطر، كانت ولادة الفتى الدمشقي الذي اختزن الحب وحده من الياسمين والكباد والبحرة والتاريخ المغرق في القِدَم، ولادة الشاعر الذي لم تستطع أن تمحو أثره الأيام بعد مئة عام، ليكون النبي في الشعر الحديث والملهم الذي جاء ليناجي فلسطين لا كما يفعل الآخرون، ويصلي في القدس كما يشتهي، ويعلن أنه صار في عمر مناسب، وأصبح عنده بندقية، من حارات دمشق العتيقة التي يضوع فيها العطر والبخور والتسامح والحب، من حارات دمشق القديمة التي انتهت على أعتابها الفتن التي أرادت لها ألا تكون هي، منها خرج نزار قباني الطفل الرجل، الشاعر المتدفق، حمل وردته الحمراء وثبّت صورتها على الجدران المقدسة، وأضاء بشمعته كنيسة وصورة لمريم والمسيح عليهما السلام، وكان يرقب منبر الأموي ليستلهم مجد أمية، ومجد العروبة، وقوة الدولة، ومدنية الحياة.. وفي مكتب عنبر رأى ما رأى من تمازج وحب وهو يعبر طريقه كل يوم في دروب مجد الشام والحياة.. اختبأ تحت ملاءة باحت له بما باحت، فحمل ثورته من أجلها، وأقسم ألا يتوقف عن الدفاع عنها وعن حريتها وطهرها، ليقول في نهاياته (حملت المرأة خمسين عاماً لكنها تركتني وذهبت إلى الكوافير)! بالمرأة بدأ شعره وقضاياه وبها ختم، من (قالت لي السمراء) إلى (أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء) خمسون عاماً من الشعر، خمسون عاماً من المرأة وحبها وهمومها، أمضى نزار عمره من زينب إلى فاطمة وبلقيس ومايا، وفي كل حالة كانت المرأة عنده المثال والحب، رفعها إلى مراتب من الصعب أن يدركها أي نوع من التهشيم، دخل في زواريب الحياة فأبدع، وكان له ما أراد.. أراد للشعر أن يكون رغيفاً ساخناً للجمهور، ولم تكن إرادته أقل من قدرته، أراد وفعل، ارتقى بالجمهور وجعله فصيحاً، وارتقى بالشعر فجعله حاجة ولغة تداول بين الناس، وحوّل الشعر إلى رأي عام، لم يؤسس حزباً، وكان حزباً وحده، تتداعى الأحزاب اليسارية واليمينية معاً لمواجهة خطر مشترك يدهمها يكمن في (الخبز والحشيش والقمر) الخطر لا يميل إلا إلى الوعي المجتمعي الذي يرعب الأحزاب العلمانية والدينية، التي من المفترض أن ترقى بنفسها وفكرها لتجاري وعي الجمهور، ونزار قباني وحده الذي خاطب الوعي وحرّضه ورفض (أن ينام كالأغنام) (أن يبول كالأغنام) لذلك جهر وهم يستجوبونه (أنا من طعنه في صدره والرقبة- في فكره المنخور مثل الخشبة)! كان نزار خطراً على الفكر الإيديولوجي السلطوي، وبعد ثلاثة أرباع القرن يجد القارئ أن نزار كان نبياً شعرياً ومبشراً، ولو تهيأ للوعي أن يصحو على ما أطلقه، ما عدنا إلى الوراء كل هذه السنوات! لو استمعنا إلى وعيه وإحساسه، هل كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه في الصراعات الإيديولوجية الحالية؟!
قضايا المرأة
في الحب كان نبيلاً ورائداً في التفاصيل الدقيقة، أرشد المرأة إلى نفسها، ودفع الرجل إلى الرقي والتهذيب في الحب والتعامل مع المرأة.. وفي قضايا المرأة كان أكثر من دقيق ولم يترك فاصلة من فواصلها لم يتوقف عندها مطولاً من المنيكور وإلى إرادة البقاء.. وفي الفكر لم يجد شعرنا عبر تاريخه شاعراً يعالج الفكر العميق ببساطة ودون حذلقة أو أستذة ليجعل الفكر مائدة للجميع، وفي الوطن والعروبة كان نزار ذاك الصوت القوي غير المؤدلج، والذي لا يرفع شعارات تخدم هذا الاتجاه أو ذاك، بل كانت رؤيته بالانتماء خاصة بالإنسان العربي الذي لا يخدم توجهاً، وإن اتفق معه، ولا يهاجم توجهاً وإن اختلف معه.. فكان يخاطبها (أيا فلسطين من يهديك زنبقة) قبل خمسين عاماً بحث عن فلسطين ورآهم يغادرون مأساة القدس منذ ذلك الوقت (وخلفوا القدس فوق الوحل عارية).
في مثل هذا اليوم، وقبل قرن من الزمن استقبلت حارات دمشق نزار وأهدته للعالم كله، أهدتهم طفلاً، رجلاً، شاعراً، ثائراً، محباً.. أهدتهم إنساناً بقي يحمل الوردة الدمشقية لترافقه في كل لحظة وفي كل لقاء وفي كل أمسية، حتى زرعها تحت رأسه وغادر.
إنها رحلة شاعر، رحلة وطن، رحلة أمة، رحلة جاءت إلى الدنيا منذ مئة عام، وربما نتذكر اليوم بعض شعره، لكننا لم نتبع رسالته التي كانت كفيلة بنقلنا إلى ضفة أخرى، وما يزال بعضهم يبحث عن نقيصة ونزار يضحك (فكم من إمام قتلناه وهو يصلي صلاة العشاء).
وفي الباب الصغير من دمشق يرقد مختصراً مدينة وتاريخاً وشعراً ولغة، طب روحاً وأنت تقول من رقدتك: (فلم يستبينوا الرشد).