الإستراتيجية الروسية الجديدة للسياسة الخارجية.. هل تؤسس لمرحلة الأفول الأميركية؟
| فراس عزيز ديب
في عالمٍ مجنون، حتى الأول من نيسان لم يعُد فيهِ عيد للكذب بعدَ أن أصبح يوماً كئيباً على من يخسَر في السياسة، لأن ما كانَ يصنف سابقاً على أنه من أكاذيبِ نيسان بات اليوم حقيقة لا لبسَ فيها، صورةٌ تجمع السفير السعودي بالسفير السوري في بغداد بضيافةِ السفير الإيراني على مائدةِ إفطارٍ رمضاني في وقتٍ كانت فيهِ مدافع التراشق الإعلامي بين ساسة الكيانِ الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية يتبادلان القصف لدرجةٍ حذَّرت فيها تقاريرَ استخباراتية غربية من أن رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو قد يسعى لتوريطِ الولايات المتحدة بحربٍ مع إيران وسورية إن لم تكف عن التدخل بشؤون الكيان الداخلية، أو هرباً من أزمته الداخلية، وهو ربما ما يفسر فعلياً تصاعد الاعتداءات الصهيونية على الأراضي السورية مؤخراً.
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سيُقاد إلى المحاكمة بعدَ توجيهِ اتهاماتٍ جنائية له قد تمنعه من الترشح للانتخابات القادمة، ربما لأنه على مساوئهِ كان أصدق رئيسٍ عرفته الولايات المتحدة، الرجل الذي قرر يوماً سحب القوات الأميركية من سورية كان يعلم بأنه سيأتي اليوم الذي لا تعرف فيه الولايات المتحدة الأميركية كيف تغطي خسائرها بسورية بعدَ تصاعد القصف على قواعدها غير الشرعية، الرجل الذي دعا لأفضلِ العلاقات مع روسيا والصين وحتى كوريا الديمقراطية باتَ هو المجرم، هي ليست كذبة لكنها حقيقة، حتى السعي لإقصاء الهيمنة الأميركية وبناء عالمٍ لا يعترف بخزعبلات الليبرالية المتوحشة لم يعد كذبة بل باتَ مساره يتضح يوماً بعدَ يوم بصورةٍ لا يراها إلا من لا يزال يعتقد بأن الولايات المتحدة قدر فما الجديد؟
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، بالطبع لم تخل هذه الإستراتيجية الجديدة من نقاط بالغة الخطورة والأهمية، لا يتسع لنا هنا إلا التعاطي مع نقطتينِ أساسيتين:
أولاً: «الروسوفوبيا».. هل فقدت الصلاحية؟
من اللافت للنظر أن تُعطي العقيدة الإستراتيجية الجديدة أولوية لتحسينِ صورة روسيا والوقوف بوجهِ حملات التشويه ضدها والتخويف منها بما بات يُعرف بمصطلح «الروسوفوبيا»، هو على طريقة «الإسلاموفوبيا» بدأ يأخذ مكانهُ بشكلٍ كبير في الدول الأوروبية، تحديداً أن الضخ الإعلامي في الدول الأوروبية الموجه نحو هدف شيطنةِ روسيا لا يشبههُ إلا ما حصلَ مع سورية، المواطن الأوروبي عليهِ أن يتلقى يومياً ثلاثَ جرعاتٍ على الأقل من المواضيع المتعلقة بشيطنةِ روسيا، فالدولة التي تقف ضدَّ الشذوذ لا تحترم الحقوق والحريات حسبَ الإعلام الفرنسي مثلاً، لكن ماذا عن الفرنسيين الذين يقفون ضد تشريع الشذوذ، هل علينا شيطنتهم؟ بذاتِ السياق فإن التحريض وصلَ إلى حد وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«الأرثوذكسي المتطرف» الذي يحاول جرًّ أوروبا إلى حربٍ دينية، هنا ببساطة نفهم المأزق الأوروبي عندما يضطرهم للعودة إلى الخطاب الطائفي في دولٍ من المفترض بأنها تجاوزت منذ قرون هكذا ترهات، حتى اتهام الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بالتشبيك الديني ظاهراً والاستخباراتي باطناً مع كل من اليونان وصربيا، ذهب أدراج الرياح، والسبب بسيط لم يفهمه من الأساس من استعجلَ سلوك هذا الطريق، فالمقاربة من حيث وضع الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تدين الأوروبيين ولا تدين الروس، لكن أولاً من المفيد هنا أن يفهم القارئ بأن هذه المقاربة هي مقاربة اجتماعية جيو سياسية لا أكثر ولا تعني بكل تأكيد تفضيل كنيسة ما لأن احترام كل العقائد التي لا تقصي الآخر هو أمر ثابت فالكنيسة الأرثوذكسية عانت من ويلاتِ الحكم الشيوعي لدرجةٍ كان فيها الإفصاح عن العقيدة الإيمانية أشبهَ بالجريمة، لكن وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي أعادَ الروس المكانة لكنيستهم، وأبدوا الاحترام لكل العقائد الأخرى التي يعتنقها باقي المواطنين الروس، لم يسعوا مثلاً لشيطنةِ المسلمين حتى في ذروة الحرب ضد المتطرفين الشيشان، في المقابل نجد الصورة في الغرب معكوسة ففي اليوم الذي كانت فيه الكنيسة تمتلك نفوذاً كبيراً عبر قرونٍ من الزمن باتت الكنيسة اليوم مهمشة إلى الحد الذي تُباع فيه الكنائس بسبب عدم توافر واردات مالية للخدمات العامة بسبب عزوف الدول التي تعتمد العلمانية دستورياً عن التدخل مالياً لمصلحة أي جهة دينية، إلى الحد الذي بات فيه تشريع قوانين من قبيل السماح بممارسة الجنس مع الحيوانات أو تحديد جنس الذات الآلهية أمراً عادياً هل تقبل الكنيسة بذلك؟ حكماً لا لكن ما هي محددات سلطتها؟ ومن الذي سلبها حتى القدرة على تقديم المشورة؟
هناك من سيقول: ولكن النظام العلماني هو أمر جيد وفصل الدين عن الدولة أمر جيد؟ هذا الكلام لا يختلف عليه اثنان لكن من قال بأن روسيا ليست دولة علمانية؟ على العكس فالتجربة الروسية هي التي أثبتت أن العلمانية لا تتعارض أبداً مع الثوابت الاجتماعية، أكثر من ذلك فإن من ينادون كما أنادي بفصل الدين عن الدولة في سورية يطلبون من الذين يشيطنون الفكرة عدم إهانتها بمقاربتها مع تجارب محددة ذهبت بعيداً في تهديم المجتمع والأسرة والتركيز على تجارب صديقة أنتجت علمانيتها الخاصة كما فعل الروس.
ثانياً: النظام العالمي الجديد.. لم يعد مزحة
تفتح العقيدة الجديدة الباب واسعاً نحو انفتاح روسي باتجاه آسيا وإفريقيا بما فيهم الدول العربية والإسلامية، عبر تشاركية تحترم أول ما تحترمه سيادة هذه الدول في عباراتٍ تبدو وكأنها أشبه بمسار التحالفات الدولية في للسنوات القادمة بعيداً عن فكرة القطبية، ما يعني بأن فكرة الريادة التي تتمتع بها الولايات المتحدة بدأت بالانحسار، هذا منطقي لكن البعض يقوم بالخلط عندما يفترض بأن الأمر يعود لتصاعد القوة عند الروس أو بسبب التراجع الأميركي، في الحقيقة علينا دمج السببين معاً، فكيف ذلك؟
عندما دخلت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة مرحلةً دقيقة، كتب المرشح جو بايدن مقالاً في مجلّة «فورين أفّيرز» الأميركية طارحاً سؤالاً جوهرياً: لماذا على الولايات المتحدة أن تقود العالم؟ بايدن شرح في هذهِ المقالة يومها برنامجه الانتخابي الذي لم ينفِّذ منه شيئاً حرفياً بما فيها فكرة ريادة الولايات المتحدة خارج سياق القوة، بل بالسلوك الذي يُعطي مثالاً جيداً للآخرين، على هذا الأساس تبدو فكرة ريادة الولايات المتحدة هي أمر جوهري لا يقبل القسمة ولا يقبل النقاش لكن في ظل ما يشهدهُ العالم من صراعات يبدو بأن ما يجري عكسَ ما يشتهيه الأميركي، فالثوابت الإستراتيجية الجديدة التي أطلقها الروس نظرت إلى موضوع الريادة بشكلٍ متكاملٍ تماماً مع القوة العسكرية، بما فيها استخدام السلاح النووي لحماية مصالح الشعب الروسي، كما كان سبقها تصاعد القوة السياسية للروس عبر موقفهم الثابت في الدفاع عن شرعية نظام الحكم في سورية عبر الوقوف بوجه كل ما حيكَ من قرارات هدفها شرعنة احتلال سورية في مجلس الأمن، وصولاً إلى القوة الاقتصادية التي نرى نتائجها في الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الأوروبيون، هذا التكامل ليسَ طارئاً عملَ الروس عليهِ منذ عقود، بل وهو مسنود بتحالفاتٍ باتت أشبه بتكتلاتٍ متينة لكن ماذا عن الطرف الآخر؟
في الجهة المقابلة ما زال الأميركي يرى في الحرب الأوكرانية مجردَ إشغالٍ للروسي، والحقيقة أن هذه الحرب كانت حجرَ أساس بفرض القوة العسكرية، قبل أمس تحدث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي مثلاً عن حتمية النصر وهزيمة روسيا، الرد على هذه التصريحات جاء على لسان الرئيس البلاروسي أليكسندر لوكاتشينكو الذي قال إنه من الهراء هزيمة دولة نووية، هذه المقاربة تبدو على درجةٍ عالية من الأهمية بل إن هذا التذكير يعيدنا إلى فرضية الإسراع الأميركي بتحجيم إيران نووياً لأن وجود دولة نووية جديدة معادية لسياساتها سيعني حكماً، رصاصة الرحمة على الزمن الذي كان فيهِ الأميركي شرطي العالم.
في الخلاصة: بدت الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية استثماراً أمثل بالمتغيرات الدولية، هي لم تكن كما وصفها البعض بالعدوانية لكنها ببساطة ردت على عدوانٍ افتراضي سياسياً أو عسكرياً، لكن في ظل زحمة الأحداث هناك من سيسأل: ما علاقتنا نحن بهذه الإستراتيجية؟
هذا السؤال لا يأخذ بعين الاعتبار التحولات الخارجية في العالم، فالسياسة الخارجية تُبنى على أساس هذه التحولات، فنحن نتحدث عن دولة تشكل بحد ذاتها قطباً دولياً لا يمكن الاستهانة بهِ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، في الوقت الذي نجد فيه دولاً بدت وكأنها بقوةٍ كرتونية بدأت تتضعضع مع أول منحدرٍ بعدَ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحالفات تتشكل لأن هناك من خرجَ فعلياً من عباءةِ الأميركي ولو بالحد الأدنى، وهناك من استشعر الترهل الأميركي، والأهم أن هناك من آمنَ منذ اللحظة الأولى لهذه الحرب اللعينة بأن أميركا ليست قدراً.
كم يتمنى عدونا أن يكون ما يعيشه فعلياً، كذبة نيسان!