إن ما يجري قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، يدعو لطرح العديد من الأسئلة فيما يتعلق بملف أساسي وخطير له علاقة بوحدة سورية، ومستقبل المشروع الانفصالي فيها، الذي يحظى برعاية أميركية- غربية، لا بل حماية مباشرة، وتحول إلى مشروع واضح ومكشوف.
سأشير إلى مجموعة أحداث وقعت في تركيا خلال التحضير للانتخابات التركية، كي ندرك حقيقة الأحداث دون أن يفهم البعض من كلامي أنه اتهام للكرد، أو تشكيك بوطنيتهم على الإطلاق، لكن لابد من شرح خطورة هذا المشروع الذي يحمل غطاءً إثنياً، كما حملت مشاريع داعش، وجبهة النصرة، والإخوان المسلمين، عنواناً دينياً- مذهبياً، وأرجو أن تتابعوا معي تسلسل الأحداث:
1- بتاريخ 20 آذار 2023 التقى زعيم حزب الشعب الجمهوري والمرشح الرئيسي عن المعارضة للانتخابات الرئاسية كمال كليتشدار أوغلو مع الرئيسين المشاركين لحزب الشعوب الديمقراطي مدحت سنجار- وبريفان بولدان، في محاولة لكسب أصوات الناخبين الكرد، وقد صرح كليتشدار أوغلو بعد اللقاء: «عرضنا على الحزب الكردي مسودة الدستور المتفق عليها، وأكدنا حيادية القضاء، ودور القانون، والحقوق، وتوقفنا عند مسألة الحكم الذاتي المحلي، وعدم صحة فرض حارس قضائي على البلديات»، يقصد البلديات في جنوب شرق تركيا، حيث وضعت الحكومة حراسة قضائية عليها بعد أن ثبت علاقة رؤساء البلديات هناك مع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا، والكثير من الدول الأخرى.
كليتشدار أوغلو أشار إلى أن «عنوان الحل لجميع المشاكل، ومنها المسألة الكردية، هو البرلمان، لأن وجود البرلمان هو من أجل إيجاد الحلول للمشاكل»، وهو بذلك يشير إلى أن المعارضة ستعود للنظام البرلماني، بدلاً من النظام الرئاسي الحالي.
2- الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب الديمقراطي «بريفان بولدان» كانت قد أطلقت تصريحاً في احتفال جماهيري في ديار بكر قالت فيه: «إنه بعد أن نجحنا في إقرار مشروعنا في سورية، الآن أتى الدور على تركيا»!
3- تشير المعلومات من داخل تركيا وخارجها إلى أن هناك صفقة غير معلنة تمت بين كمال كليتشدار أوغلو، وحزب الشعوب الديمقراطي، حيث يُعول على أصواتهم في الانتخابات لهزيمة الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، لكن العداء لأردوغان من المعارضة «طاولة الست»، وحزب الشعوب الديمقراطي، لا تبرر مثل هذا التحالف، إذ لابد من أن يكون هناك ثمن كبير يتجاوز مسألة العداء نحو موضوع «الحكم الذاتي»، إنهاء سجن أوجلان، ووقف إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي الذي يواجه قضية قضائية أمام المحكمة العليا بتهم الارتباط بحزب العمال الكردستاني، وسيخوض الانتخابات تحت اسم حزب «اليسار الأخضر».
4- الغريب في الأمر أن حزب الشعب الجمهوري نفى على مدى عقود وجود اللغة والثقافة الكردية، وأن حزب العدالة والتنمية الحاكم هو الذي أطلق مسيرة السلام والديمقراطية لإنهاء المشكلة الكردية للقرى والمناطق، وافتتح أقساماً للغة والأدب الكردي في ست جامعات تركية، وأطلق قناة «TRT» بالكردية، كما أجرى مفاوضات مع عبد اللـه أوجلان انتهت في 21 آذار 2013 بإطلاق رسالة تُليت باللغتين التركية والكردية في مدينة ديار بكر من اثنين من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي بمناسبة أعياد النوروز، أعلن فيها أوجلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، ودعا عناصر «PKK» للانسحاب من الأراضي التركية، وإنهاء الكفاح المسلح، والانتقال للنضال الديمقراطي، لكن عملية التسوية هذه التي استمرت حتى عام 2015 انتهت بالفشل بسبب عدم اعتذار عناصر «PKK» عن أفعالهم السابقة، ورفضهم عملية التسوية.
وهذه الإجراءات التي نفذها الحزب الحاكم كانت بناء على اتفاق مع الأميركيين آنذاك، ليتبين لاحقاً أن واشنطن كانت تدعم مشروعاً انفصالياً في سورية يهدد أمن تركيا، وأن الإجراءات التي تمت داخل تركيا تجاه الكرد كانت مقابل أن تكون تركيا هي راعية الكانتونات الإثنية في شمال العراق، شمال شرق سورية، وهو ما أدى لاحقاً لتحالف الحزب الحاكم مع اليمين القومي التركي في انتخابات عام 2015، التي تمت إعادتها إثر إخفاق عملية التسوية مع حزب العمال الكردستاني وواجهته السياسية حزب الشعوب الديمقراطي، وفي الوقت نفسه التصويت ضد الحزب الحاكم في تلك الانتخابات، وترافق ذلك مع صعود المشروع الانفصالي في سورية، واعتقاد انفصاليي تركيا أن ذلك يقوي من شوكتهم في الداخل التركي، وخاصة مع الدعم الأميركي والغربي لمشروع ما يسمى «إدارة ذاتية» في سورية.
5- بعد انقلاب أردوغان على ما تم الاتفاق عليه مع الولايات المتحدة نتيجة اكتشافه أنها أخلّت بما وعدت به، وقيامه بضرب قيادات حزب الشعوب الديمقراطي، وسجنهم، وتفجر العلاقة بين أردوغان وشريكه في الحكم فتح اللـه غولين، وصولاً إلى محاولة الانقلاب على أردوغان في تموز 2016، نلاحظ أن حزب الشعوب الديمقراطي انقلب على تحالفاته مع الحزب الحاكم، ودخل بقوة بتحالف جديد مع حزب الشعب الجمهوري ظهرت نتائجه في بلديتي إسطنبول وأنقرة، حيث دعم آنذاك أكرم إمام أوغلو ضد بن علي يلدريم في إسطنبول ومنصور ياواش في أنقرة، الأمر الذي دفع أردوغان، وحزبه الحاكم لتصفية الأدوات الأميركية ممثلة بجماعة فتح اللـه غولين في مؤسسات الدولة كافة بما فيها القوات المسلحة، وأجهزة الأمن، ووسائل الإعلام، كما قام بتصفيتهم داخل حزبه مثل أحمد داود أوغلو، وعلي بابا جان اللذين انتقلا للمعارضة، وأصبحا جزءاً من «طاولة الست» ويدعمان برنامجها السياسي، وقد قام كليتشدار أوغلو مؤخراً بترشيح نوابهم على قائمة حزبه على حساب كوادر حزب الشعب الجمهوري، وقاعدته الانتخابية العلمانية الواسعة، ما أثار ضجة كبيرة داخل الحزب وقياداته.
6- أن أي متابع لترشيحات المعارضة التركية للمقاعد النيابية سيكتشف أنها عادت لأسماء وشخصيات كانت متورطة في أحداث سورية، وداعمة للإرهاب فيها، من هذه الشخصيات مثلاً سعد اللـه أرغن الذي شغل منصب وزير العدل بداية الأحداث، وتورط مع جماعات إرهابية متطرفة شمال اللاذقية، وحينما رُشح عن لواء إسكندرون قامت الدنيا ولم تقعد، ما اضطر حزب الشعب الجمهوري لنقل اسمه إلى أحد أحياء أنقرة، كما نقرأ ترشيح الكاتب حسن جمال حفيد جمال باشا السفاح، والكاتب جنكيز تشاندار الذي فرَّ من تركيا إثر محاولة الانقلاب على أردوغان في تموز 2016، وبمناسبة هذا الترشيح كتب سونير يالتشين في 11 نيسان 2023 في موقع «أوضا تي في» أن جمال وتشاندار كانا من أكبر المؤيدين لأردوغان حينما اعتقل ضباط الجيش والمثقفين في قضية أرغينيكون، كما كانا معه حينما كان المسجونون يموتون في السجن، وحينما وقعت كل هذه الفظائع، لم يكن أردوغان استبدادياً!
هذه اللقطات التي يتحدث عنها يالتشين، قد تعطيكم فكرة عن التحالفات الجديدة للمعارضة التركية، ليس لأن الحزب الحاكم بريء، ونحاول أن نقدم صورة حسنة عنه، ولكن لأننا يجب أن نفهم أن قاعدة «عدو عدوي صديقي»، ليست دقيقة دائماً حسب ما يعتقد البعض.
7- من الواضح وفقاً لما عرضناه من معلومات أن هناك صفقة غير معلنة تمت بين المعارضة التركية، وحزب الشعوب الديمقراطي باعتباره الشريك السري للمعارضة، والهدف إقرار حكم ذاتي «إدارة ذاتية» جنوب شرق تركيا، شبيهة تماماً بما يحصل في شمال شرق سورية، وللعلم فإن نظير حزب الشعوب الديمقراطي في سورية هو ما يسمى «مجلس سورية الديمقراطي – مسد»، وجناحه العسكري ميليشات «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، ومن يدير هذه التنظيمات كلها داخل سورية وتركيا هم الأميركيون بوضوح شديد.
من هنا فإن الانتخابات القادمة في تركيا ليست صراعاً على السلطة بين أردوغان وخصومه، بل صراع على تحديد مستقبل النظام السياسي داخل تركيا، وهذا سيكون له انعكاسات مباشرة على مستقبل سورية نظراً للارتباط الوثيق بين مشروعي الإدارة الذاتية، أو ما يسمى «مشروعاً كردياً» على صعيد المنطقة، ولذلك فإن أخطر ما يواجهه هذا المشروع هو المصالحة السورية- التركية التي تنظر إليها واشنطن على أنها خطر كبير جداً على ما تبقى من مشروعها في المنطقة، وعلى أساس ذلك تدعم موسكو وطهران وبكين، الحزب الحاكم في تركيا، لأنه أفضل الخيارات السيئة، في حين تنخرط السفارة الأميركية في أنقرة، والسفارات الغربية الأخرى، في ترتيب أوراق المعارضة التركية، وهذا واضح من هذه التركيبة التي لا يجمعها شيء سوى تنفيذ الأجندة الأميركية بدقة.
لقد كان الرئيس الأميركي جو بايدن واضحاً خلال حملته الانتخابية عام 2020 حينما أعلن أن الولايات المتحدة ستدعم المعارضة لهزيمة أردوغان، وأضاف: كما عملنا حين أخرجناه وحزبه من إسطنبول، وقال: «يمكننا دعم تلك العناصر في القيادة التركية التي لا تزال موجودة، وتشجيعهم على مواجهته»، ولم يخفِ بايدن دعمه لما سماه القضية الكردية قائلاً: «إن آخر شيء قد أفعله هو الإذعان له (أي لأردوغان) فيما يخص الأكراد».
كلام بايدن قبل سنوات يفسر لنا أكثر ما تريده واشنطن في تركيا، أنها تريد «زيلينسكي التركي» في المرحلة القادمة بعد أن اختلفت مع أردوغان الذي استخدمته لسنوات ضد دول المنطقة وشعوبها، وتتهمه بالتغريد خارج سربها مع موسكو وطهران وبكين.