انتهت يوم الأحد الماضي 14 أيار الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التركية في حين أن البرلمانية كشفت عن مفاجأة من العيار الثقيل، وأعلنت اللجنة العليا للانتخابات نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، سأقدم هنا ملاحظاتي الأولية عن هذه الانتخابات:
1- بالنسبة للانتخابات البرلمانية فقد حصل «تحالف الجمهور» الذي يقوده الحزب الحاكم على 322 مقعداً منها 266 لحزب «العدالة والتنمية»، 51 لحزب «الحركة القومية»، 5 لحزب «الرفاه الجديد» بزعامة فاتح أربكان نجل نجم الدين أربكان.
أما «تحالف الأمة» المعارض بزعامة حزب «الشعب الجمهوري» فقد تلقى ضربة قاسية، إذ لم يحصل إلا على 212 مقعداً منها 168 لحزب «الشعب الجمهوري»، 44 لـ«الحزب الجيد» بزعامة ميرال آقشنير، و13 مقعداً لحزب علي بابا جان، و10 مقاعد لحزبي أحمد داود أوغلو والسعادة»، في حين حصل «تحالف العمل والحرية» اليساري الكردي على 66 مقعداً منها 62 مقعداً لحزب «اليسار الأخضر»، أي «حزب الشعوب الديمقراطي» واجهة «حزب العمال الكردستاني»، و4 نواب لـ«حزب العمال التركي» الذي اتهم «اليسار الأخضر» أنه يدعم الفاشية، ويعمل على توريط الكرد في صراعات لا نهاية لها من خلال تشكيله واجهة سياسية لـ«حزب العمال الكردستاني».
بناء على هذه الخريطة البرلمانية يمكن القول إن الحزب الحاكم في تركيا لديه الأغلبية بـ322 مقعداً لتشريع القوانين العادية، ويحتاج إلى دعم أحزاب أخرى في حال رغبته في تحويل أي مشروع قانون للاستفتاء لأنه يحتاج 360 مقعداً، وفي حال الحاجة لأي تعديل دستوري فهو يحتاج لـ400 مقعد أي ثلثي أصوات البرلمان.
بصورة عامة فإن الحزب الحاكم سيطر على البرلمان مع حلفائه وهو ما يعني أن أحلام المعارضة التركية، وما طرحته في برنامجها السياسي أي العودة للنظام البرلماني قد انتهت على المدى المنظور للانتخابات القادمة، حتى لو افترضنا جدلاً فوز كمال كيليتشدار أوغلو بالجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، فهو لن يستطيع تنفيذ أي شيء مما وعد به.
2- فيما يخص الانتخابات الرئاسية فقد حصل أردوغان على 49.51 بالمئة، في حين حصل كمال كيليتشدار أوغلو على 44.88 مدعوماً من ستة أحزاب، وسراً من حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي، وجماعة فتح اللـه غولن، ووسائل الإعلام الغربية، ومع ذلك لم يتمكن من هزيمة منافسه على الرغم من الأجواء التحضيرية والإعلامية التي أكدت أنه سيفوز مدعوماً باستطلاعات الرأي العام التي كانت ترمى في وجه الناخبين كل يوم.
خسر أردوغان أصوات الكرد في أنقرة، إسطنبول، وديار بكر، ورغم وجود رئيسي بلديتين كبيرتين ينتميان للمعارضة حصل على قرابة 50 بالمئة من أصوات الناخبين فيهما، ووصل إلى 49.5 بالمئة، أي لو لم يُحشد ضده هذا الحشد الكبير لفاز من الجولة الأولى، وصدمة المعارضة أنه على الرغم من ذلك كله أخفق مرشحها في بلوغ عتبة الـ45 بالمئة، والفارق بينه، وبين منافسه نحو 2.5 مليون صوت مع خسارة مدوية في البرلمان.
3- بدا واضحاً بعد الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية أن تحالف المعارضة سوف ينهار بعد البدء بتبادل الاتهامات وتحليل نتائج ما حصل، وهو ما أبرزه الكاتب محمد تيزكان في موقع حزب الشعب الجمهوري «خلق تي في» حيث عبّر عن صدمته، وخيبته مما حصل، إذ كتب مقالاً بعنوان «بابا جان وداود أوغلو مجرد بالونين مضخمين»! حيث أشار إلى أنه كتب أكثر من مرة أن اردوغان كان يعرف أنه لن يفوز في الجولة الأولى، لكن الحقيقة أن كيليتشدار أوغلو لم يفز أيضاً، وكان هدف أردوغان هو الفوز بالأغلبية في البرلمان في الجولة الأولى كي يدخل الجولة الثانية مسلحاً بتفوق على خصمه، وقد حصل على ذلك، إذ نال حزبه النسبة المتوقعة 35 بالمئة وحده من دون الحلفاء، وفي الرئاسة 49.5 بالمئة، في حين حصل كيليتشدار أوغلو في الرئاسة على أقل من 45 بالمئة في حين أنه كان يتحدث عن 49 بالمئة، والذي حصل هو العكس تماماً، والذين نشروا استطلاعات الرأي العام، وحاولوا تحشيده كانوا مخطئين تماماً.
يرى الكاتب المؤيد لحزب «الشعب الجمهوري» أن حزبه لديه نسبة في الانتخابات البرلمانية (حصته) ما بين 22-25 بالمئة، ففي عام 2015 حصل على 25 بالمئة، لكن الذي حصل هذه المرة هو أنه دخل الانتخابات معطياً من حصته البرلمانية أحزاباً أخرى لاعتقاده أنها ستعطيه أصواتاً من قواعدها الانتخابية في الانتخابات الرئاسية ليتبين أنها أخذت 36 مقعداً في البرلمان من دون أن تتمكن من إعطائه أي نسبة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية بسبب عدم قدرتها على سحب أصوات مؤيدي حزب «العدالة والتنمية»، ليتبين أن داود أوغلو، وعلي بابا جان مجرد بالونين منفوخين يسوقان نفسيهما بشكل جيد، ويحلل الكاتب محمد تيزكان الأصوات التي أعطيت لـكيليتشدار أوغلو وفقاً للنتائج في البرلمان كما يلي:
-حزب «الشعب الجمهوري» 25.3 بالمئة، «الحزب الجيد» 9.6 بالمئة، حزب «اليسار الأخضر» الكردي 8.8 بالمئة، حزب «العمال التركي» 1.7 بالمئة، مجموع أصوات هؤلاء تعادل ما حصل عليه كيليتشدار أوغلو، إذاً أين أصوات الشركاء الثلاثة في الطاولة السداسية أي: بابا جان، داود أوغلو، حزب السعادة، يجيب لا شيء أبداً، ولم يقف الأمر عند ذلك بل إن مشاركتهم في الحملة الانتخابية كانت ضعيفة، وفشلوا في جذب أصوات المحافظين الأتراك.
هذه الصورة التي شرحها الكاتب التركي تبين بأنه كان هناك مبالغة في حجم بعض أطراف الطاولة السداسية، وتضخيم لدورها، والتحالف بينها.
4- بعد خسارة البرلمان، وضمان بعض أطراف الطاولة السداسية المعارضة لمقاعدهم فيه على حساب حزب «الشعب الجمهوري» لن يكونوا بحاجة لكيليتشدار أوغلو بعد سقوط برنامجهم السياسي الذي ارتكز على الدعوة للعودة إلى النظام البرلماني، وأما الدول الغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية فسوف تعمل على تخفيف تصريحاتها العدائية الأمر الذي عكسته «الأيكونوميست» البريطانية التي كتبت عنواناً رئيسياً قبل الانتخابات: «على أردوغان أن يرحل»، عادت لتقول: إن تقدم أردوغان دفع المعارضة للبحث عميقاً في الذات، إذ أصبح كيليتشدار أوغلو أمام أسوأ سيناريو في الانتخابات، واعترفت أنه كان هناك مبالغة من المعارضة بقدراتها، وتقليل من قدرة الخصم، متوقعة أن الجولة الثانية ستكون أسهل بالنسبة لأردوغان بسبب تعب الناخبين، والأغلبية التي حصل عليها في البرلمان، ولم تبتعد الصحافة الأميركية عن هذا التقدير، في حين أن الصحافة الفرنسية اعترفت بأن أردوغان يحظى بدعم شعبي في تركيا، داعية الغرب لتقبل ذلك، والتعاطي معه معترفة أن الإعلام الغربي ينظر إلى تركيا من خلال مرآة مشوهة تركز على المراكز الحضرية الرئيسة، وتتجاهل تركيا الأناضولية، وأن إطلاق التسميات على زعيم المعارضة مثل «غاندي التركي» لم تغير من المزاج، كما أن الانتخابات كشفت كذب استطلاعات الرأي العام التي انتشرت بغزارة، والتي ركزت على الوضع الاقتصادي المتردي، وجيل الشباب، والصوت الكردي ليتبين أن هناك عوامل أخرى ترتبط بشعور أغلبية من الأتراك بحاجة للاستقرار، وبعوامل قومية، وبفشل المعارضة في تقديم طمأنة صادقة، إذ اعتمدت على المبالغات الكبيرة في طروحاتها.
5- إن نظرة سريعة على خريطة التصويت في تركيا تظهر بوضوح أن التصويت لا يزال كما هو: أقصى الشرق والغرب «علماني» وصوت لكيليتشدار أوغلو، إسطنبول ووسط الأناضول «محافظ» وصوت لأردوغان، أما المحافظات الجنوبية الشرقية فقد صوتت للأحزاب الكردية، وهنا لابد من الإشارة إلى اتساع الفجوة بين القوميين الأتراك والأكراد، وبين العلمانيين والإسلاميين ما يشير إلى استمرار أزمة الهوية، والانقسام الاجتماعي داخل تركيا، ما يفرض على أردوغان إن فاز في الجولة الثانية، وعلى حزبه الحاكم، وحلفائه مواجهة هذا التحدي القائم في المستقبل، أما حصول المرشح الثالث سنان أوغان على 5.6 بالمئة من الأصوات فيعزى إلى قبول أقشنير بالتحالف مع حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي، الأمر الذي سحب جزءاً من أصوات القوميين والمحافظين نحوه، وقد يكون بيضة قبان في المرحلة الثانية من الانتخابات.
6- الآن سينتظر الجميع الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لتحديد اسم الفائز فيها يوم ٢٨ أيار، لكن المؤشرات التي تحدثت عنها سابقاً ترجح فوز أردوغان في هذه الجولة كما يبدو، من دون أن نحسم ذلك مسبقاً، ليبقى السؤال: أي منعكس لذلك على مسار التطبيع السوري- التركي الذي وصل لاجتماع وزراء الخارجية في موسكو ١٠/٥/٢٠٢٣؟ وبرأيي فإن المسار سيستمر بعد حسم الانتخابات التركية مستنداً إلى حاجة تركيا لتغيير سياساتها، والانسحاب من الأراضي السورية، ووقف دعم الإرهاب، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية، وما عبرت عنه دمشق في لقاء موسكو الأخير هو الاستعداد لتطبيع العلاقات مع أنقرة بعد الاتفاق على ذلك كله، وستذهب دمشق مستقبلاً مسلحة بالعودة للجامعة وبعلاقات مع الدول العربية، وهو عامل لم يكن موجوداً من قبل، الانتخابات التركية أظهرت أن أردوغان رقم صعب في تركيا أحببنا ذلك أم لم نحب، وخريفه الذي تحدث عنه البعض، لم يكن ربيعاً للمعارضة التركية، وأعتقد أن تريث دمشق حتى حصول الانتخابات التركية كان منطقياً وحكيماً حتى ينجلي غبار المعركة، وهو ما سيحصل قبل نهاية أيار الحالي.
زعيم «حزب وطن» التركي دوغو بيرنتشيك لخص الوضع بالقول: «إن أردوغان ليس حلاً جذرياً، لكن كيليتشدار أوغلو هو كارثة على تركيا والدول العربية الشقيقة»، وقد يكون ذلك أفضل توصيف لواقع الحال بعد الانتخابات التركية.