ظل حلم الدولة العربية الواحدة يدغدغ مخيلة أجيال عديدة منذ زمن بعيد، وبرز ذلك بشكل أوضح وأكبر مع سقوط السلطنة العثمانية نهاية الحرب العالمية الأولى، واعتقاد البعض أن القوى الاستعمارية آنذاك فرنسا وبريطانيا، سوف تُنفذ وعودها، التي قدمتها للشريف حسين بإقامة دولة عربية واحدة من الحجاز إلى بلاد الشام، لكن هذه الأحلام اصطدمت بمشاريع أخرى خططت لها تلك القوى العظمى، من خلال تقسيم المنطقة إلى بؤر نفوذ لها، وإقامة الكيان العنصري الصهيوني في فلسطين، وتقسيم بلاد الشام إرباً- إرباً.
اعتقد السوريون أن هذه القوى الاستعمارية سوف تُصفق لهم إذا أنتجوا دستوراً متقدماً ومتطوراً، وهو ما فعلوه بدستور عام 1920 الذي قبلوا فيه ملكية دستورية، وأسسوا البرلمان وغير ذلك، لكن الفرنسيين والانكليز لم يكن يعنيهم من الأمر شيئاً، فداسوا على ذلك الدستور، واحتلوا سورية دون أي اعتبار لإرادة السوريين آنذاك، وهذا الأمر يتكرر اليوم بعد أكثر من مئة عام، عندما يعتقد البعض أن كتابة الدستور السوري في لجنة مناقشة الدستور سوف يثلج صدر الولايات المتحدة الأميركية، القوة الاستعمارية الجديدة مع القوى الغربية الأخرى، وسوف تصفق لنا الآن كما اعتقد أجدادنا قبل مئة عام تماماً، والحقيقة أنه لا يجوز أن نقع في الفخ نفسه مرة أخرى، فالولايات المتحدة لا تحاصر، ولا تُجوع، ولا تقتل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، إنما من أجل الهيمنة والسيطرة، ونهب الثروات لمصلحة شركاتها العابرة للأمم والقارات، وهو أمر لا علاقة له أبداً بما قد نحتاجه نحن لتطوير دستورنا، أو قوانيننا لمصلحة وطنية بحتة، وليس للحصول على شهادات حسن سلوك من أحد.
شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهوراً قوياً للفكر القومي العربي مع تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في أربعينيات القرن الماضي، وقد جاء مؤسسو الحزب من خلفية فكرية أوروبية، فرنسية بالذات، عبر التركيز على البعد الثقافي- الحضاري للفكر القومي العربي، على الرغم من بروز تيار متطرف في المؤتمر التأسيسي قريب من النظرية الألمانية التي تركز على العرق، وليس على اللغة والثقافة والحضارة والإنتاج الفكري المشترك، والآمال والتاريخ، ومع ذلك انتصر التيار الأول، وظهر حزب البعث بنسخته الأولى كحزب يساري ديمقراطي قريب من النمط الأوروبي الفرنسي، وليس حزباً ماركسياً يسارياً متشدداً كما سعى البعض لأخذه ستينيات القرن الماضي.
إحدى الإشكاليات الأساسية لدى المؤسسين أنهم تخيلوا في دستور الحزب دولة عربية واحدة قائمة، ووضعوا لها قواعد دستورية وبرلماناً، لكن الواقع أظهر أن تحقيق الوحدة ليس عملاً رومانسياً، إنما يحتاج للتعاطي مع الحقائق على الأرض، وأن المشروع القومي العربي ليس مجرد عواطف ومشاعر تكفي لقيام مثل هذا الحلم، إذ تناسى كثيرون أهمية الاقتصاد كحامل مادي أساسي لأي مشروع وحدوي، واكتفى القوميون العرب في مرحلة ما بالتنظير فقط دون العمل الفعلي على الأرض بمشاريع تنموية مشتركة.
أدى انتهاء الوحدة السورية المصرية ما بين 1958- 1961، لصدمة كبيرة لدى جيل بأكمله، ولتؤكد مرة أخرى أن الوحدة ليست قراراً سياسياً، إيديولوجياً، أو عاطفياً، وإنما تحتاج لقواعد متينة عنوانها الاقتصاد والتنمية والمصالح المشتركة بين أبناء الشعب العربي، وهو ما لم يحصل طوال عقود من الزمن، ثم تأكد ذلك لاحقاً في مرحلة الوحدة بين سورية والعراق أواخر سبعينيات القرن الماضي، إذ كان ممنوعاً، ولا يزال وحدة هذا الحوض الجغرافي البشري الاقتصادي.
وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت لقيام الوحدة السورية المصرية وانهيارها، وأهمية جمال عبد الناصر كقائد قومي عربي ما يزال تأثيره حتى اليوم، أو دور صدام حسين في الإطاحة بمشروع الوحدة السورية العراقية، لكن المهم إعادة قراءة كل هذه التجارب، واستخلاص الدروس المستفادة.
في 15 تشرين الثاني 2017 قال الرئيس بشار الأسد أثناء لقاء مع نُخب قومية عربية: إن العروبة هي حالة ثقافية حضارية إنسانية جامعة ساهم فيها كل من وجد في هذه المنطقة دون استثناء، وهي لا تقوم على دين، أو عرق محدد، إنما أساسها اللغة، الجغرافيا الواحدة، التاريخ، والمصالح المشتركة، ودعا في ذلك اللقاء الذي مضى عليه ست سنوات إلى التمسك بالهوية، ولكن أيضاً طالب بطرح أفكار تطويرية تتفق مع مصالح الشعوب، وتراعي روح العصر، مشيراً إلى أن القومية ليست فكرة نظرية، وممارسة سياسية فقط، بل هي انتماء اجتماعي وحضاري، معترفاً بأن الرؤى القومية كانت تُبنى على العواطف والانفعالات!
آنذاك دعا الرئيس الأسد إلى فكرتين:
الأولى: عدم التحدث عن الحالة القومية كحالة عاطفية بل يحتاج الأمر إلى العمل، والتعاطي مع الواقع.
الثانية: استعادة الآخرين الذين هم في مكان مناقض أو مختلف معنا، أي إطلاق الحوار مع الآخرين سواء داخل الدول الوطنية العربية، أو بين العرب أنفسهم على اختلاف دولهم القطرية، وأنظمتهم السياسية، كما أفهم من كلام الرئيس الأسد.
أنطلق من هذه المقاربة لأشير إلى مجموعة خلاصات مهمة لابد من تثبيتها في أذهان القراء:
1- الحالة القومية هي حالة فطرية لدى كل عربي بغض النظر عن النظام السياسي الذي يعيش في ظله (اللغة- الثقافة- التاريخ المشترك- التحديات… الخ).
2- ما ينقص الحالة القومية ليس المزيد من الأدلجة والتقسيم الذي اعتدنا عليه تاريخياً (أنظمة تقدمية وأنظمة رجعية… الخ)، بل المزيد من المشاريع الاقتصادية والتنموية والتكنولوجية، والمزيد من فرص العمل للشباب، ودور أكبر للمرأة، وهامش للحريات يخدم الأوطان وتقدمها، ولا يحول الحرية كمفهوم إلى جسرٍ للقوى الأجنبية لضرب وحدتنا، وهويتنا وانتمائنا.
3- يشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2022 الذي يصدر صندوق النقد العربي إلى أن مساحة الوطن العربي 13.2 مليون كم2، منها 1.4 مليار هكتار للزراعة، وعدد السكان يصل إلى 500 مليون نسمة، ونسبة القوى العاملة 47 بالمئة من السكان، واحتياطي النفط المؤكد من النفط العالمي 55.2 بالمئة، والغاز 26.9 بالمئة، وإذا أضفنا لكل ذلك الموارد البشرية العلمية، والشبابية نستطيع تخيل الحوامل الاقتصادية الهائلة لأي مشروع عربي أي «العروبة الاقتصادية».
4- أثبتت التجارب التاريخية على الأقل خلال العقد الأخير مما سُمي ربيعاً عربياً، ودون مزايدة على أحد، أن أي تراجع عربي سيُملأ من قوى إقليمية، أو قوى دولية، وأن تعاون الدول العربية من أجل مصالحها، ومصالح شعوبها سيُجبر الآخرين على التعاطي معنا باحترام ضمن إطار المصالح المتبادلة.
كما أن الاعتقاد أن تطور أي بلد عربي يمكن أن يكون على حساب تعاسة، أو تدمير بلد عربي آخر، هو مجرد تفكير مريض لابد من علاجه ومواجهته.
السؤال الأخير: هل ثمة فرصة تاريخية الآن؟ الجواب: نعم بحكم التغيرات التي تجري في النظام الدولي، وتلاقي مصالح العرب مع القوى الصاعدة ممثلة بالصين وروسيا، ودول كثيرة في العالم، ومشاريعها الاقتصادية من قبيل «حزام واحد طريق واحد»، و«بريكس»، و«شنغهاي»، و«الاتحاد الأوراسي» وغيرها، وأغلبية هذه المشاريع تدفعنا كعرب للتفكير ككتلة اقتصادية مؤثرة، ووازنة في النظام الدولي الجديد.
هذا مجمل نقاش خضته مع أحد الأكاديميين من المملكة العربية السعودية خلال فترة عملنا معاً في موسكو في الاجتماع الدولي الثالث للخبراء الدوليين حول الأمن في الخليج 12-13 حزيران الجاري، واتفقنا معاً للحديث والكتابة عن «العروبة الاقتصادية»، إذ أشار صديقي إلى أن العروبة الحضارية والثقافية لا حاجة لإثباتها والبرهنة عليها، فهذه حالة فطرية كما وصفها الرئيس الأسد عام 2017، ما ينقصنا في الحالة القومية العربية المزيد من الأفكار والمشاريع التنموية والاقتصادية، التي تجعل العروبة واقعاً معاشاً وليس عاطفياً فقط، إنما كجزء من حياتنا ومصالحنا، وارتباطنا ببعضنا بعضاً، فالعروبة الاقتصادية هي الحامل المادي الواقعي الحقيقي للمستقبل، وإلا فسنبقى أمام حالة تنظيرية عاطفية لا تشعر أحداً بالحاجة لها في زمن التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.